بقلم: إيناس الوندي
على مقعد خشبي متهالك في بيت متواضع بإحدى ضواحي بغداد، جلست "أم ليلى" – امرأة كوردية فيلية تجاوزت الستين – وهي تقلب بين يديها دفترًا عتيقًا غطاه الاصفرار، وتهمس: "هذا كل ما تبقى من عمري… أوراق وأسماء محتها غربات المنافي وسجون البعث."
ولدت "أم ليلى" في خانقين، مدينة تتنفس رائحة التبغ والماء والحنطة، لكنها لم تعرف أن هويتها الكوردية الفيلية ستتحول يومًا إلى وصمة، يدفع ثمنها آلاف الأبرياء من أهلها.
ليلة الخطف
في ربيع عام 1980، اقتحم رجال الأمن بيت عائلتها قبيل الفجر. كانوا مدججين بالسلاح، يصرخون بأوامر قاسية: "قوموا.. أنتم إيرانيون! العراق ما يريدكم!"
اقتادوا زوجها وأخيها مكبلين إلى جهة مجهولة. تقول أم ليلى والدمعة تخنق صوتها:
"لم يعودا أبدًا… لا قبر، لا أثر، فقط شهادة وفاة وصلت بعد سنين تقول: توفي بالخيانة العظمى."
رحلة التهجير
في اليوم ذاته، حُشرت العائلة – نساءً وأطفالاً وشيوخًا – داخل شاحنات عسكرية أشبه بأقفاص حديدية. قطعت بهم الطريق إلى المنفى على الحدود الإيرانية.
"تركنا بيوتنا، ذهبنا حفاة إلى أرض غريبة لا نعرفها، كنا نُساق كالقطيع، حتى الأطفال لم يسلموا من السياط."
في المنفى، عاشت سنوات قاسية بلا مأوى ولا جنسية. "أم ليلى" صارت شاهدة على موت أطفال فيليين تجمدت أجسادهم بردًا في الجبال، وعلى رجال دفنوا في مقابر جماعية بعدما رفضوا التخلي عن هويتهم.
ذاكرة السجون
لم يكن التهجير وحده عقابًا. كثير من شباب عائلتها وُضعوا في السجون. شقيقها الأصغر – طالب جامعي – اعتُقل لمجرد أنه رفض تغيير لقبه "الفيلي". بعد أشهر، وصلهم خبر استشهاده في سجن أبو غريب.
"كانوا يبيعون جثث شبابنا للطب العدلي… وكأننا لسنا بشرًا بل أرقامًا في قوائم الموت."
أصوات من الذاكرة
اليوم، وبعد مرور أكثر من أربعة عقود، لا تزال "أم ليلى" تحفظ تفاصيل المأساة كأنها حدثت بالأمس. تقول:
"أريد أن يعرف العالم أننا لم نكن خونة ولا غرباء، كنا أصحاب الأرض، أصحاب السوق والمدرسة والمكتبة… لكن البعث أراد محو اسمنا."
جرح لم يندمل
قصة "أم ليلى" ليست استثناء، بل مرآة لمأساة عشرات آلاف الكورد الفيلية الذين عانوا من سياسات التسفير والقتل والتهميش. ملفاتهم لا تزال شاهدة في أرشيف مؤسسة الشهداء وذاكرة العراقيين.
ولعل ما يزيد الجرح عمقًا أن ما مرّت به أم ليلى وعائلتها كان جزءًا من حملة منظمة: بين أبريل 1980 وما بعده شرّعت الدولة إجراءاتٍ أدت إلى فقدان جنسية أعداد كبيرة من الفيليين وطردهم من العراق؛ وتشير التقديرات إلى أن عدد الفيليين الذين سُحبت عنهم الجنسية وتعرضوا للتسفير يتراوح بين 220,000 و300,000 شخص. فيما تُقدَّر حالات الاعتقال والاختفاء والوفاة بنحو 25,000 ضحية.
ولم تتوقف المأساة عند الفيليين فقط، بل كانت جزءًا من سياسة تطهير عرقي أوسع استهدفت الأكراد بمختلف مكوناتهم: إحراق قرى، تهجير قسري واسع، وعمليات اختفاء قسري، لتصل أعداد المهجرين إلى مئات الآلاف.
بعد عام 2003، أعيدت الجنسية لعشرات الآلاف من الفيليين، لكن كثيرًا منهم ما زالوا يعانون حتى اليوم من عراقيل إدارية وممتلكات مصادرة وغياب وثائق تثبت حقوقهم.
ختاما : الآن، وهي تجلس قرب حفيدتها الصغيرة، تشدد "أم ليلى" على وصيتها:
"علّموهم أننا فيليون… كي لا يكرر التاريخ خيانته."
بين الدموع والكلمات، يظل صوتها شاهدًا على حقبة سوداء في تاريخ العراق، ونداءً ألا تُمحى قصص الضحايا من الذاكرة الجمعية.