الشهداء المغيبون.. مأساة الكورد الفيليين بعيون شاهدة على الألم
مشاركة عبر:
8-02-2025, 13:40
412 مشاهدة
تحقيق صحفي – بقلم إيناس الوندي
سنوات الجحيم على يد الطاغية الملعون ....
على الرغم من مرور أكثر من أربعة عقود على الجريمة التي استهدفت الكورد الفيليين في العراق، إلا أن مأساتهم لا تزال جرحًا مفتوحًا في ذاكرة الوطن. آلاف الشباب الذين اختفوا قسرًا، العائلات التي مزقتها قرارات التهجير، والأطفال الذين كبروا بلا أسمائهم الحقيقية، جميعهم ضحايا نظام صبَّ جام حقده على هذه الشريحة الأصيلة من المجتمع العراقي.
"كان مجرد شاب يطمح لحياة أفضل، لكنهم جعلوه وقودًا لحربٍ لم يكن طرفًا فيها"، بهذه الكلمات تسترجع الدكتورة ((نعمة سعيد عبد الله))، قريبة الشهيد(( سمير نور علي))، مأساة ابن عائلتها، الذي تحوّل إلى شرارة أشعلت واحدة من أكبر حملات التهجير القسري في تاريخ العراق.
سمير.. الشرارة التي كشفت الحقد المدفون
تروي الدكتورة نعمة، وهي تحمل شهادة الدكتوراه في فلسفة القانون العام – دولي عام، قصة ((سمير نور علي))، الشاب الذي كان يدرس الفيزياء في سنته الثالثة بالجامعة المستنصرية، عندما سقط ضحية لمؤامرة قذرة دبرها النظام البعثي آنذاك.
"في أحد الأيام، وقع انفجار في المستنصرية، واتُّهم سمير زورًا بأنه وراءه. لم يكن النظام بحاجة إلى دليل، كان يبحث فقط عن مبرر لمخططه الإجرامي ضد الكورد الفيليين"، تقول الدكتورة نعمة بحزن.
لم تمضِ سوى ساعات على الحادثة حتى داهمت قوات الأمن منزل الحاج نور علي، والد سمير، في ساحة بيروت ببغداد. "اعتقلوا العائلة بأكملها، رجالًا ونساءً وأطفالًا. صادروا الأموال، ونهبوا الممتلكات، ثم اقتادوا الجميع إلى المجهول"، تضيف بحرقة.
بين التهجير والإعدام.. العائلة التي تمزقت في ليلة واحدة
عائلة نور علي المكونة من 15 فردًا، تحوّلت بين ليلة وضحاها إلى أشلاء متناثرة بين السجون والمنافي. تم إعدام عدد من أفراد العائلة، بمن فيهم سمير وأشقاؤه الصغار، وسام (8 سنوات) وأمير (10 سنوات)أضافة الى زوج اختة واشقاؤه، الشهيد احمد والشهيد صلاح وصبري ووالدهم الشهيد شكر رحيم
، بينما أُجبرت والدة سمير مع أربع من بناتها على عبور الحدود حفاة عراة إلى أرض غريبة لا يحملون منها سوى الألم والخذلان.
"كانت أمه تحاول الإمساك بيد طفلها الصغير وهي تُدفع نحو الحدود، لكن الجنود دفعوها بعنف إلى الجانب الإيراني، فيما بقي طفلها هناك، في قبضة وحوش لا يعرفون الرحمة"، تروي الدكتورة نعمة، وصوتها يرتجف تحت ثقل الذكريات.
"وسن وعلاء".. طفلان ضائعان في متاهة المجهول
لم تكن مأساة سمير وعائلته الوحيدة في تلك الحقبة المظلمة. هناك أيضًا قصة الطفلين وسن وعلاء، أبناء أحمد شكر رحيم، الذي كان زوجًا لـسعدية نور علي، أخت سمير.
"داهموا منزلهم بعد منتصف الليل، اعتقلوا الوالدين، وتركا الطفلين الصغيرين وحدهما في المنزل"، تقول الدكتورة نعمة.
تكفل الجيران بهما لفترة، ولكن خوفهم من بطش الأمن دفعهم إلى تسليمهما إلى دار الأيتام. بعد سنوات طويلة من العذاب في غياهب المعتقلات، أُطلق سراح والدتهما وأُجبرت على الهجرة إلى إيران، بينما تم إعدام الأب.
"لم يكن هناك من يبحث عن الطفلين، لا أحد يعرف إلى أين انتهى بهما المطاف"، تضيف بحزن. وسن أصبحت "وسن ضياء هاشم"، وعلاء أصبح "علاء فؤاد عبد الغني"، بعدما تبنتهما عائلتان مختلفتان. عاشا منفصلين دون أن يعرف أحدهما الآخر، حتى سقوط النظام عام 2003، حين تمكنت العائلة أخيرًا من لمّ شملهم بأمهم بعد 24 عامًا من الفراق.
الطفلة علا.. من حضن الأم إلى المجهول
قصة أخرى من دفتر الأحزان الفيلي، وهي مأساة الطفلة علا، ابنة سميرة نور علي، أخت سمير. كانت علا تبلغ عامين فقط عندما داهم الأمن منزلهم، واعتقلوا والدها عبد الستار، فيما كانت الطفلة الصغيرة نائمة في حضن والدتها.
"تم أخذ والديها، فيما بقيت هي عند الجيران. كبرت في كنف غرباء، لا تعرف شيئًا عن والدتها التي قضت سنوات في السجن، قبل أن تُجبر على الهجرة إلى إيران"، تتابع الدكتورة نعمة.
مرت السنوات وكبرت علا، وأصبحت شابة لا تعرف شيئًا عن جذورها. لم تلتقِ بوالدتها إلا بعد سقوط النظام، عندما أصبحت امرأة بعدما تركتها والدتها طفلة رضيعة.
"كنا نظن أن الأفلام الهندية مبالغ فيها، لكننا أدركنا أن الواقع كان أشد قسوة"
في حديثها، تستذكر الدكتورة نعمة كيف أن قصص التهجير والمآسي كانت تبدو وكأنها أفلام هندية لا تمتّ للواقع بصلة، لكنها كانت "أشد قسوة ومرارة مما كنا نتصور".
"هل يمكنكِ أن تتخيلي أن آلاف العوائل فقدت أبناءها دون أن تحصل حتى على شهادة وفاة؟ آلاف الشباب اقتيدوا إلى سجون الموت، لم يعثر لهم على قبر، ولا شاهد، ولا حتى بقايا ثياب تدل على أنهم كانوا يومًا ما هنا"، تضيف بأسى.
مجزرة بلا قبور.. أين يرقد شهداء الكورد الفيليين؟
لا يزال مصير آلاف الشهداء الفيليين مجهولًا. لم تعثر عائلاتهم على رفاتهم، ولم يتم توثيق أماكن دفنهم كما حدث مع ضحايا الأنفال وحلبجة.
"هل يُعقل أن تُترك قضية بهذا الحجم دون تحقيق جاد؟ ألا يستحق هؤلاء الشهداء أن يُبحث عنهم، عن قبورهم، عن قصصهم التي لم تروَ بالكامل بعد؟" تتساءل الدكتورة نعمة.
وتضيف: "لقد كان إخلاص الكورد الفيليين للعراق مضربًا للأمثال، ومع ذلك كان جزاؤهم الإبادة. حتى وهم في المنافي، لم يكفوا يومًا عن عشق هذا الوطن، ولم يتوقفوا عن الحلم بالعودة إليه".
الشهداء المغيبون.. ولكن إلى متى؟
اليوم، وبعد أكثر من 40 عامًا، لا تزال مأساة الكورد الفيليين في طيّ النسيان. رغم الاعتراف الرسمي بجرائم الإبادة الجماعية التي تعرضوا لها، لا يزال البحث عن الحقيقة متعثرًا، ولا تزال قبور الشهداء مجهولة، فيما تستمر العائلات المنكوبة في البحث عن إجابات لأسئلة لم تلقَ أي ردّ حتى الآن.
"قد يموت الظالم، لكن آثار جرائمه تبقى شاهدة على وحشيته. ومهما طال الزمن، فإن العدالة لا بد أن تجد طريقها، ولو بعد حين"، تختم الدكتورة نعمة حديثها، وهي تمسح دمعة فرت من عينيها، ربما تأبينًا لكل من رحل دون أن يحظى حتى بكلمة وداع.