تنوع نيوز. ايناس الوندي
صورة تعود لسبعينيات القرن العشرين، لا تبدو مجرد لقطة عابرة من ذاكرة بغداد، بل نافذة على مهنة حملت جزءًا من روح المدينة: الإسكافي. في تلك الحقبة، كان حضور هذه المهنة واضحًا في الأسواق القديمة والأزقة الشعبية، حيث ازدهرت على يد حرفيين من الكورد الفيلية الذين عرفوا بالدقة والصبر والمهارة في التعامل مع الجلود وترميم الأحذية.
وفي محاولة لفهم ما تبقى من هذه الحرفة اليوم، أجرينا مقابلة مع الحاج كريم الفيلي (78 عامًا)، أحد أقدم الإسكافيين في منطقة باب الشيخ - بغداد (اسم رمزي يحترم الخصوصية). يجلس الحاج كريم منذ خمسين عامًا خلف كرسيه الخشبي المتآكل، وبجانبه أدواته التقليدية: الإبرة، الخيوط، المسامير الرفيعة، المطرقة الجلدية، وأداة تشكيل الكعب. يقول بحسرة هادئة:
"إحنا تعلمنا الشغلة من آبائنا، مو بس شغل.. هذي هويّة. اليوم الجيل الجديد ما دا يقبل يكملها، لأن الرزق مو مثل قبل.. الكل يشتري جديد ويذب القديم بالنفايات."
ويشاطر هذا الحنين الحاج عارف من خانقين، الذي ما زال يعمل في دكان صغير قرب سوق خانقين المركزي، ويضيف:
"كان الإسكافي مو بس يرمم، كان يفصّل الجزمة حسب مقاس قدم الزبون.. اليوم الزبائن تجي قليل، والسوق صاير يضج بالبضاعة الرخيصة."
تأثير السوق العالمية وغزو المنتجات الصينية
إلى جانب تغيّر الذائقة الاجتماعية، لعب العامل الاقتصادي العالمي دورًا حاسمًا في تراجع هذه الحرفة. فمع تدفق الأحذية الجاهزة المستوردة، خاصة من الصين وتركيا وإيران بأسعار منخفضة، بات إصلاح الحذاء خيارًا أقل جاذبية للمستهلك.
الفرق السعري كبير:
حذاء مستورد جاهز: 10 – 20 ألف دينار
إصلاح حذاء تقليدي عالي الجودة: 15 – 30 ألف دينار
وبذلك أصبح من الأرخص شراء الجديد بدل إصلاح القديم، مما دفع الكثير من الإسكافيين إلى إغلاق محالهم أو التحول إلى أعمال أخرى. يصف بعضهم هذا التحول بأنه "تآكل للهوية الحرفية" أكثر من كونه مجرد تراجع اقتصادي.
مهنة مرتبطة بالهوية الفيلية
حتى اليوم، ما زال بعض سكان خانقين وبغداد (الكفاح، باب الشيخ، السنك) يعتبرون الإسكافي رمزًا لهويتهم وعملًا شريفًا ورثوه عن الآباء والأجداد. لكن مرور الوقت، والهجرة، وتغير الاقتصاد، جعلت هذه المهنة تقف على حافة الاندثار.
ومع ذلك، يرى باحثون في التراث الشعبي أن إنقاذ الحرفة ممكن عبر:
دعم أصحاب الورش الصغيرة بمشاريع حكومية
إدخال المهنة في معاهد التدريب المهني
تطوير الإنتاج بدمج الحرفة التقليدية مع التصاميم العصرية
الخلاصة
هذه الحرفة ليست مجرد صناعة جلدية، بل قصة مجتمع، وذاكرة مدينة، وهوية قومية وثقافية لأبناء الكورد الفيلية في بغداد وخانقين.