تحقيق: ايناس الوندي
على ضفاف نهر الوند في خانقين، حيث تتشابك الجغرافيا بالتاريخ، وفي شوارع بغداد القديمة التي ما زالت تحتفظ ببعض أصداء اللهجة الكلهورية الفيلية، يقف الكورد الفيلية اليوم كشاهد حي على هوية ضاربة بجذورها إلى ما قبل ألفي عام.
لكن ما سر هذه التسمية؟ وكيف تحولت من "پهله" التاريخية إلى هوية كردية ما زالت ماثلة رغم التهجير والنسيان؟
البدايات: إقليم "پهله" (Pahla) من العصر الفرثي إلى الساساني
يعود أصل الكورد الفيلية إلى إقليم "پهله" (Pahla)، الذي ظهر في العصر الفرثي (247 ق.م – 224م)، واستمر حضوره حتى الدولة الساسانية (224–651م).
كان "پهله" يشمل مناطق إيلام، كرمنشاه، خانقين، ومندلي، وامتد حتى همدان وإصفهان.
في هذه الفترة، ازدهرت لغة "الفهلَوية" (Fahlaviyat)، وهي لغة شعرية وأدبية شكلت أساس اللهجة الكلهورية الفيلية الحالية.
المؤرخ الكردي د. ريبوار حسن يوضح:
"الكورد الفيلية هم الامتداد المباشر لشعوب إقليم پهله القديم، ثقافيًا ولغويًا، وهم من حافظوا على اللهجة التي تعود جذورها إلى الفهلَوية."
من "Pahla" إلى "فيلي": رحلة التسمية عبر القرون
مع الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي، تغيّر النطق بسبب غياب حرف "P" في العربية، فأصبحت "Pahla" → "Fahla"، ثم تحولت تدريجيًا إلى "فيلي (Faili/Feyli)".
خلال العصور الوسطى، أصبحت الكلمة مرادفة لكل من يتحدث باللهجة الكلهورية ويسكن مناطق "پهله".
الشيخ عباس فيلي (مواليد 1938) من خانقين يقول:
"في صغرنا، كان العرب والفارسيين يسموننا بالفيلية تمييزًا عن بقية الكورد، لأن لهجتنا مختلفة وقريبة للفهلَوية القديمة."
بين الصفويين والعثمانيين (1501–1920): أراضي الفيلية
في العهد الصفوي، احتفظ سكان إيلام وكرمنشاه بخصوصيتهم اللغوية، وسُجلت لهجتهم ضمن الإرث الفهلَوي.
أما في العراق العثماني، فقد سُميت مناطقهم رسميًا "أراضي الفيلية" في الوثائق الإدارية، خاصة في خانقين ومندلي.
المؤرخ التركي إسماعيل حقي كتب في سجلات القرن الثامن عشر:
"عشائر الفيلية تمتد من كرمنشاه حتى تخوم خانقين، ولها عاداتها ولغتها المميزة عن بقية الأكراد."
الهوية الفيلية المعاصرة: لغة وثقافة وصمود
اليوم، يتحدث الكورد الفيلية اللهجة الكلهورية الفيلية، وهي جزء من المجموعة الجنوبية الكردية، وتمتاز بارتباطها الوثيق بالـ"فهلَوية".
وفق الدراسات الحديثة، يُقدر عددهم بنحو 1.5 مليون في العراق ومليون في إيران، مع تركزهم في بغداد، ديالى، ميسان، إيلام، وكرمنشاه.
ورغم التهجير القسري في عهد النظام البعثي، احتفظوا بتراثهم الثقافي، من الشعر الفهلَوي إلى الفلكلور الشعبي.
خط زمني لهوية ممتدة
الحقبة الزمنيةالحدث
247 ق.م – 224مبروز إقليم "پهله" في ظل الدولة الفرثية.
224 – 651مترسيخ الثقافة الفهلَوية في العهد الساساني.
القرن السابع الميلاديتحول النطق إلى "فيلي" بعد الفتح الإسلامي.
1501–1920تثبيت "أراضي الفيلية" في الوثائق الصفوية والعثمانية.
القرن العشرين ظهور الهوية الفيلية الحديثة رغم التهجير القسري.
شهادات أكاديمية
د. علي موسى: "التسمية 'فيلي' تحوير صوتي طبيعي لـ 'Pahla'، وتعني حرفيًا الانتماء إلى بارثيا (Parthia)."
Kurdish Academy of Language: "الفيلية هم الامتداد الثقافي لإقليم پهله، ولهجتهم الكلهورية أقرب اللهجات للكردية القديمة."
دراسات لغوية حديثة (2020) تصنف الفيلية كلغة حية تحتفظ بملامح الفهلَوية التي تعود للألفية الأولى قبل الميلاد.
التهجير في زمن البعث.. كسر الهوية أم تعزيزها؟
بين عامي 1970 و1988، شهد الكورد الفيلية واحدة من أشرس حملات التهجير القسري في العراق.
تم إسقاط الجنسية العراقية عن عشرات الآلاف منهم بحجة "التبعية الإيرانية"، رغم أن جذورهم موغلة في خانقين ومندلي وبغداد.
أُبعدوا قسرًا إلى إيران، وصودرت ممتلكاتهم، وزُج بآلاف الشباب في السجون، ليلقوا حتفهم في المقابر الجماعية.
المؤرخة سعاد الفيلي ترى أن هذه الحقبة، رغم قسوتها، عززت روح الهوية:
"حين حاول النظام محوهم، ازداد تمسك الفيلية بأصلهم. كانوا يرددون: نحن أبناء پهله، لا حدود تمحونا."
خاتما: شعب لا ينكسر
اليوم، وبعد سقوط النظام البعثي عام 2003، بدأ الكورد الفيلية رحلة استعادة هويتهم المسلوبة، مطالبين برد الاعتبار وتعويض المظالم.
من "پهله" الفرثية إلى "خانقين" الحاضرة، يظل الفيلية شعبًا لم تنل منه حملات الإقصاء ولا سياسات التهجير، شعبٌ تشهد له الجغرافيا والتاريخ واللغة بأنه أحد أقدم جذور كردستان الأصيلة.