خانقين .ايناس الوندي
على الحدود العراقية – الإيرانية، حيث تقف مدينة خانقين شامخة بتاريخها العريق، برزت أسماء كثيرة ساهمت في رسم ملامح المجتمع المحلي. ومن بين هذه الأسماء، يظلّ المرحوم سعيد حسين قزانجي الصفّار حاضرًا في ذاكرة أهل المدينة كأحد أوائل الحرفيين الذين تركوا بصمة لا تُنسى.
خانقين، المدينة التي يغلب عليها الطابع الكوردي الفيلي، اشتهرت عبر عقود طويلة بتنوّعها الاجتماعي والثقافي، غير أن الكورد الفيليين شكّلوا عمودها الفقري. عُرفوا بمثابرتهم، وتميّزوا بإتقان الحرف والمهن اليدوية، وفي مقدّمتها مهنة الصفّار، أي صناعة الأواني النحاسية، التي لم تكن مجرد مهنة بل هويةً ارتبطت بتاريخهم.
في خمسينيات القرن الماضي، كان حيّ الحميدية في خانقين يعجّ بالأسواق والورش الصغيرة، وهناك عُرف المرحوم سعيد حسين قزانجي الصفّار كأحد السبّاقين في هذا المجال. رحل عن الدنيا عام 1956، لكنه خلّف إرثًا من الاحترام والذكر الطيب، وهو والد المرحوم جلال وكمال، إضافة إلى جمال.
ومع ازدهار الهجرة الداخلية للكورد الفيليين، حمل الصفّارون خبرتهم ومهنتهم إلى بغداد، حيث وجدوا في منطقة الشورجة بيئة خصبة لانتشار صناعتهم. منذ سبعينيات القرن الماضي، تحوّلت الشورجة إلى مركز أساسي لتجارة النحاسيات، وكانت دكاكين الصفّارين الفيليين تتجاور في أزقّتها الضيقة. هناك، كان المارّة يسمعون صوت المطرقة وهي تعزف على صفائح النحاس، مختلطة بأصوات الباعة والمنادين.
وتحوّلت الأزقة إلى لوحة نابضة بالحياة: ألوان النحاس المصقول تتلألأ تحت ضوء الشمس، وروائح القهوة والبهارات تتداخل مع رائحة المعدن الساخن. لم تكن الورش مجرد أماكن عمل، بل ملتقيات اجتماعية صغيرة، حيث يجتمع الحرفيون ويتبادلون الخبرة ويعلّمون أبناءهم أسرار الصنعة.
هكذا ارتبطت الذاكرة الجمعية لمدينة بغداد بالصفّارين الكورد الفيليين، الذين جعلوا من الشورجة علامة فارقة في تاريخ العاصمة الاقتصادي والاجتماعي. إنّ استذكار المرحوم سعيد حسين قزانجي الصفّار اليوم ليس مجرد توثيق لسيرة شخصية، بل هو استحضار لمرحلة كاملة، حين صارت المطرقة على النحاس رمزًا للكفاح والهوية، وجسرًا يصل خانقين ببغداد.