إعداد: إيناس الوندي
في الأزقة الحجرية لمحلة قلعة جميل بگ بمدينة مندلي، وُلد عام 1910م فتى سيحمل لاحقًا رسالة العلم والتنوير لأبناء مدينته الحدودية التي طالما كانت بوابة الثقافة الكوردية الفيلية نحو العراق.
ذلك الفتى هو الأستاذ محمد حسين بگ، ابن الضابط العثماني حسين علي بگ الذي خدم في الجيش برتبة يوزباشي، ومن أسرةٍ عُرفت بالعلم والانضباط والاحترام في الأوساط المندلاوية.
من مقاعد دار المعلمين إلى إدارة أول مدرسة في مندلي
أنهى محمد حسين بگ دراسته الابتدائية في مندلي، ثم واصل طريقه إلى دار المعلمين الريفية، ليعود بعدها معلماً في مسقط رأسه. لم يكن مجرد معلم يلقّن الدروس، بل كان مربّيًا صارمًا ومحبًّا، يؤمن بأن التعليم هو طريق التحرر من الجهل والتبعية.
اختير لاحقًا ليكون أول مدير لمدرسة مندلي الابتدائية للبنين، وهي المدرسة التي خرجت أجيالاً من الكفاءات، كان كثير منهم من أبناء الكورد الفيلية الذين واصلوا دراستهم في بغداد وخانقين وبعقوبة.
- شخصية صارمة وقلب أبوي
يصفه زملاؤه القدامى بأنه كان يحمل في ملامحه مزيجًا من الهيبة والحنان؛ يفرض النظام بصرامته، ويزرع في طلابه حب الوطن والانتماء.
كان يؤمن أن المدرسة هي «بيت الأمة»، وأن دور المعلّم يتجاوز السبورة إلى بناء الإنسان. لذلك كان يتابع طلابه في بيوتهم، ويزور أسرهم، ويحث الآباء على تعليم بناتهم أيضًا في وقتٍ كانت فيه نظرة المجتمع للتعليم محدودة.
من مندلي إلى بغداد... رحلة الإشراف التربوي
تنقّل الأستاذ محمد حسين بگ بين مدارس بعقوبة وخانقين، قبل أن يُعيَّن مشرفًا تربويًا في تربية بغداد. في العاصمة، استمر في دعم التعليم الريفي، وشارك في إعداد خطط لمحو الأمية في خمسينيات القرن الماضي، وهي مرحلة شهدت نهوضًا فكريًا وثقافيًا في العراق.
وعندما أحيل إلى التقاعد، ترك خلفه جيلاً من المربين الذين نهلوا من تجربته، وحملوا شعلة التعليم في المدن والقرى الكوردية الفيلية.
أسرة علمٍ وعطاء
لم يكن تأثيره مقتصرًا على الميدان التربوي، بل امتد إلى بيته؛ إذ أنجب الدكتور عصمت محمد حسين بگ، الذي يُعد أول طبيب أسنان من مندلي، إلى جانب أبنائه إحسان، فكرت، وإنعام.
أما شقيقه اللواء أحمد حسين بگ، فكان أول محافظ من مندلي، عُيِّن محافظًا للواء الديوانية عام 1968م، ما جعل الأسرة بأكملها علامة مضيئة في تاريخ أبناء الكورد الفيلية.
ذاكرة مندلي تروي عنه
يقول الحاج عبد الرزاق كريم الفيلي، وهو أحد تلاميذه الذين درسوا في مدرسة مندلي الابتدائية عام 1949م:
«كان الأستاذ محمد حسين بگ أبًا قبل أن يكون مديرًا، كان يدخل الصف بخطوات واثقة، لا يحتاج إلى عصا ليزرع فينا النظام، بل بكلمةٍ طيبة ونظرةٍ صارمة. كان يسأل عن أحوال أهلنا، ويزور المرضى من طلابه بنفسه. لم نكن ندرك وقتها أن ما يزرعه فينا من قيمٍ هو ما سيجعلنا نحمل حبّ مندلي في قلوبنا حتى اليوم».
ويضيف أحد أبناء المدينة، جميل عبد الله الفيلي، من جيل السبعينيات:
«حين نذكر التعليم في مندلي، لا يمكن أن نتجاوز اسم محمد حسين بگ. كان رمزًا للمربي الحقيقي، ومن بذرته نبتت أسماء كثيرة من المثقفين والأطباء والمعلمين الذين رفعوا شأن الكورد الفيلية في ديالى وبغداد».
رحيل المربّي وبقاء الأثر
في أيار من عام 1984م، أغمض الأستاذ محمد حسين بگ عينيه بعد حياة حافلة بالعطاء. بقي اسمه يتردّد في مقاهي مندلي ومدارسها، كرمزٍ للمعلّم الصارم والمحب، وكواحدٍ من أوائل التربويين الكورد الفيلية الذين ساهموا في بناء جيلٍ مثقفٍ من أبناء المدينة.
رحمه الله، وجزاه عن مندلي وأهلها خير الجزاء.
المصدر . أرشفة التحقيق: رقم 2025/3139 – موسوعة مندلي الحضارية / بغداد.