تحقيق: إيناس الوندي
في مثل هذه الأيام، قبل خمسة عشر عامًا، أصدرت المحكمة الجنائية العراقية العليا قرارًا تاريخيًا اعترفت فيه رسميًا بأن ما تعرّض له الكورد الفيلية على يد نظام صدام حسين يُعد جريمة إبادة جماعية (Genocide)، وفقًا للتوصيف القانوني الدولي.
قرارٌ جاء متأخرًا، لكنه أعاد فتح جرحٍ لم يندمل، وذاكرةٍ ما زالت مثقلة بالتهجير، والإخفاء القسري، وسلب الهوية، ومصادرة الحياة.
جريمة بلا قبور… وبلا أرقام نهائية
لم تكن مأساة الكورد الفيلية حدثًا عابرًا في سجل الجرائم السياسية للنظام السابق، بل كانت سياسة دولة ممنهجة، استهدفت شريحة اجتماعية–قومية عُرفت بولائها للعراق، وبحضورها الاقتصادي والثقافي في بغداد وديالى وواسط وخانقين.
منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، وتصاعدًا في الثمانينيات، شُنّت حملات واسعة:
إسقاط الجنسية العراقية عن عشرات الآلاف.
تهجير قسري إلى الحدود العراقية–الإيرانية في ظروف لا إنسانية.
مصادرة الأموال والممتلكات دون أي سند قانوني.
اعتقال آلاف الشباب، خصوصًا الذكور، الذين اختفوا قسرًا ولم يُعرف مصير غالبيتهم حتى اليوم.
وبحسب شهادات وملفات المحكمة، فإن آلاف الفيليين دُفنوا في مقابر جماعية، أو استُخدموا كـ«مواد تجارب» في السجون، في واحدة من أبشع الجرائم التي ارتُكبت بصمت.
لماذا إبادة جماعية؟
قرار المحكمة الجنائية العليا عام 2010 لم يكن توصيفًا سياسيًا أو أخلاقيًا فقط، بل حكمًا قانونيًا استند إلى:
الاستهداف القومي المنظم للكورد الفيلية.
نية الإهلاك الجزئي أو الكلي لجماعة محددة.
ارتكاب أفعال محظورة دوليًا (القتل، التهجير، الحرمان من الهوية، الإخفاء القسري).
وهو ما ينسجم مع تعريف الإبادة الجماعية في اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948.
العدالة… خطوة أولى لا تكفي
رغم أهمية القرار، إلا أن مرور خمسة عشر عامًا يكشف حقيقة مؤلمة:
الاعتراف لم يتحول إلى إنصاف حقيقي.
فحتى اليوم:
لم تُستكمل ملفات التعويض العادل.
ما زالت آلاف العوائل تبحث عن رفات أبنائها.
تعثّر استرداد الكثير من الأملاك المصادَرة.
غاب الملف الفيلي عن المناهج الدراسية والتوثيق الوطني الجاد.
يقول أحد ذوي الضحايا:
"اعترفوا بالجريمة، لكنهم لم يعيدوا لنا الإنسان."
الذاكرة مسؤولية وطنية
قضية الكورد الفيلية ليست شأنًا فئويًا، بل اختبارًا حقيقيًا لعدالة الدولة العراقية بعد 2003.
فالنسيان هنا ليس مجرد إهمال، بل استمرار غير مباشر للجريمة.
إحياء الذكرى الخامسة عشرة لقرار المحكمة يجب أن يكون:
مناسبة لمراجعة ما نُفذ وما أُهمل.
دعوة لإعادة فتح الملفات المغلقة.
ضغطًا قانونيًا وإعلاميًا لتحويل الاعتراف إلى إنصاف شامل.
ما لم يُكتب بعد
لا تزال قصص الأمهات اللواتي ودّعن أبناءهن على الحدود، والأطفال الذين كبروا بلا أسماء رسمية، والرجال الذين اختفوا في دهاليز الأمن، تنتظر من يكتبها… لا بوصفها ماضٍ فقط، بل كحقّ حيّ لم يُسترد.
جريمة بلا قبور… وبلا أرقام نهائية
لم تبدأ مأساة الكورد الفيلية بقرارٍ واحد، ولم تنتهِ بسقوط نظام، بل كانت سلسلة طويلة من الإجراءات القمعية الممنهجة التي استهدفت وجودهم الإنساني قبل السياسي. جريمة بلا شواهد قبور، وبلا أرقام دقيقة، لأن النظام السابق تعمّد أن يمحو الضحية حتى من الإحصاء.
منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، شرع نظام صدام حسين بتنفيذ سياسة منظمة ضد الكورد الفيلية، انطلقت أولى حلقاتها بإسقاط الجنسية العراقية عنهم بذريعة “التبعية الأجنبية”، رغم كونهم من أقدم المكونات العراقية، وسُجّلوا رسميًا في سجلات الدولة منذ تأسيسها.
هذه السياسة لم تكن إدارية أو قانونية، بل كانت تمهيدًا لجريمة أكبر:
اقتحام المنازل ليلًا.
فصل الرجال والشباب عن عوائلهم دون أوامر قضائية.
نقلهم إلى معتقلات سرّية لم يُعرف مصير أغلب من دخلها.
دفع النساء والأطفال وكبار السن قسرًا نحو الحدود العراقية–الإيرانية، حفاةً، بلا وثائق، بلا أموال، وفي ظروف مناخية قاسية.
التهجير لم يكن إنقاذًا ولا إبعادًا، بل حكمًا بالموت البطيء. كثيرون قضوا في الطرقات، وآخرون ضاعوا في مخيمات اللجوء، بينما اختفى آلاف الشباب داخل سجون الأمن العامة والمخابرات، في واحدة من أكبر عمليات الإخفاء القسري في تاريخ العراق الحديث.
وحتى اليوم، لا توجد أرقام نهائية لعدد الضحايا:
بعض التقديرات تتحدث عن أكثر من 22 ألف مختفٍ قسريًا.
وأخرى تشير إلى عشرات الآلاف من المهجّرين والمجرّدين من الجنسية. لكن الثابت أن الجريمة كانت واسعة النطاق، متعمدة، ومستمرة لسنوات.
غياب القبور، وضياع السجلات، وإتلاف الوثائق الرسمية، لم يكن صدفة، بل كان جزءًا من الجريمة نفسها؛ فحين يُمحى الجسد ويُمحى الاسم، يُراد للجريمة أن تموت بصمت.
لكن بعد عقود، بقيت الذاكرة الفيليّة حيّة، تشهد أن ما جرى لم يكن تهجيرًا عابرًا، بل اقتلاعًا جماعيًا لجماعة كاملة من جذورها.
بعد خمسة عشر عامًا، يبقى السؤال مفتوحًا
هل تكفي الأحكام إذا لم تُشفِ الذاكرة ولم تُنصف الضحايا؟