×

أخر الأخبار

مقبرة جهرم في شيراز... صمت الحجر يروي فصول التهجير القسري للكورد الفيليين

  • 1-07-2025, 19:00
  • 68 مشاهدة


إيران – تحقيق: إيناس الوندي

في جنوب إيران، وعلى أطراف مدينة شيراز، تقع مقبرة جهرم بهدوئها الموحش، شاهدةً صامتة على واحدة من أقسى صفحات التهجير القسري في تاريخ العراق الحديث. بين جنباتها، يرقد المئات من ضحايا سياسة الإبادة والترحيل التي مارسها نظام صدام حسين في أواخر السبعينات وبداية الثمانينات بحق الكورد الفيلية – هذه الأقلية المظلومة التي دفعت ثمن هويتها المزدوجة: الكوردية والمذهبية.

قبور بلا أسماء... وهوية مسلوبة حتى بعد الموت

حين تمشي بين القبور المتراصة في مقبرة جهرم، ترى شواهد حجرية باهتة، كثير منها بلا أسماء، فقط تواريخ قد تدلك على جيل كامل اقتُلع من جذوره. بعض العائلات وضعت صوراً صغيرة أو لوحات معدنية مكتوبة بخط اليد، علّها تنقذ ذكرى أحبّتها من النسيان.

يقول الحاج حسن الفيلي، أحد المهجرين الأوائل ممن دفنوا أبناءه هنا:
"لم يمتوا فقط في الغربة، بل دُفنوا من دون وطن، من دون جنازة، من دون وداع. لم يسمحوا لنا أن نبكيهم كما يجب."

هروب من الجحيم إلى المجهول

في عام 1980، وبتهمة "التبعية الإيرانية"، بدأ النظام البعثي العراقي بتنفيذ عمليات تهجير قسرية جماعية طالت أكثر من 600 ألف كوردي فيلي، معظمهم من الكوادر التجارية والأكاديمية. سُحبت منهم الجنسية العراقية، صودرت ممتلكاتهم، واقتيدوا بوسائل مهينة إلى الحدود الإيرانية سيرًا على الأقدام، في ظروف قاسية، مات فيها الشيوخ والرضّع والنساء الحوامل.

أُجبر الكثير منهم على العيش في معسكرات بائسة داخل إيران، وفي مناطق مثل كرمانشاه، إيلام، شيراز، وجهرم. ومات المئات بسبب الجوع والبرد وسوء الرعاية الطبية.
تقول السيدة كوثر حسن الفيلي، التي فقدت أختها الصغرى في طريق التهجير:
"لم يكن لدينا قبر لها في العراق، دفناها هنا في جهرم بين أناس لا يتحدثون لغتنا، لكننا نقشنا اسمها بالفارسية، فقط كي لا تُنسى."

جهرم... أرض استضافة ومأوى أبدي

على الرغم من المعاناة، فإن أهالي مدينة جهرم في شيراز قد فتحوا صدورهم للمهجّرين، وساهموا في توفير أراضٍ لمقابرهم، بل وشارك بعضهم في مراسم الدفن والصلاة، احتراماً لمصاب جيرانهم الجدد.
لكن المقبرة اليوم تعاني الإهمال، فلا صيانة منتظمة، ولا توثيق رقمي للدفائن، ولا لوحة تُعرّف الزائر بتاريخها المؤلم. مقبرة بمئات الأرواح، ولا تزال خارج السجلات الرسمية.

شاهد من جهرم: أسماء لا تُنسى

من بين الأسماء التي استطعنا توثيقها عبر روايات الأحياء:

شكرية كريم الفيلي (مواليد بغداد – توفيت في 1981 بسبب التهاب حاد في الرئة، بعد شهرين من التهجير)

عدنان محمود الفيلي (14 عامًا – غرق أثناء محاولة عبور نهر الزاب قبل الترحيل)

فاطمة عبد الحسين الفيلي (ولدت في الكاظمية، توفيت في مخيم شيراز عام 1982 بسبب سوء التغذية)

وهؤلاء ليسوا إلا نماذج لآلاف قُبروا هناك، دون أن يُسجَّلوا في ذاكرة الدولة العراقية، ودون أن يُكرّموا كما يليق بالشهداء.

من يقرأ الشاهد؟
اليوم، يطالب نشطاء من الكورد الفيلية والمؤرخون العراقيون بإدراج مقبرة جهرم ضمن قائمة مواقع التوثيق الإنساني للضحايا العراقيين، داعين الحكومة العراقية إلى:

إرسال وفد رسمي لتوثيق أسماء المدفونين

تسجيل المقبرة كجزء من "جرائم النظام البائد"

تخصيص ميزانية لصيانة القبور وترميمها

دعم أرشيف رقمي لمأساة المهجّرين الفيليين

ختامًا: هنا يرقد الغياب

مقبرة جهرم ليست مجرد مكان للدفن، بل وثيقة بشرية كتبتها أقدام المتعبين ودموع الأمهات في ليل التهجير. هي سردية مكتومة لجريمة لا تزال بلا اعتراف كامل، وصرخة حجرية تنتظر من يسمعها.

وإلى أن يأتي الاعتراف والإنصاف، ستظل شواهد جهرم تقول للعالم:
"هنا يرقد الغياب... وهنا نام وطن بأكمله في تراب الغربة."