تحقيق: إيناس الوندي
على سفوح الجبال التي تتنفس الضباب فجرًا، تقف البيوت الكوردية كأنها أوتار طنبورٍ حجريّ، تُصدر موسيقى صامتة لا يسمعها إلا من عاش بين جدرانها. ليست مجرد مساكن، بل نصوصٌ منقوشة على الحجر والطين، تحكي عن شعبٍ صمد في وجه الريح، وحمل ذاكرته معه عبر الأزمان.
هذه البيوت — بطرازها المتدرّج في هورامان وبالنگان، وبساحاتها الواسعة في قرى كردستان العراق — تبدو كأنها جزء من الجبل نفسه؛ ينبض بالحياة، ويخفي خلف أبوابه أسراراً من العمل والفرح والكفاح.
جغرافيا المكان… حين يصبح البيت امتداداً للجبل
في هورامان وبالنگان، تتعاقب البيوت الحجرية فوق بعضها كأنها مدرّجات زراعية صُنعت للسكن. سطح كل منزل هو فناء للمنزل الذي يعلوه، مما خلق منظراً بصرياً فريداً يشبه لوحة فنية ضخمة رسمتها الطبيعة وكمّلتها يد الإنسان.
المواد الأولية كانت بسيطة:
حجر جبلي، طين مخلوط بالتبن، وجذوع شجر تُستخدم كسقوف وأعمدة.
لكن البساطة هنا ليست ضعفاً؛ بل فلسفة تعكس الانسجام مع البيئة وقوة العلاقة بين الكوردي وأرضه.
النوافذ والأبواب الخشبية المطلية بالأزرق أو الأخضر كانت تضيف حياة على الواجهات، وتكسر قسوة الحجر بنعومة لونية دافئة.
الديواخان… القلب النابض لكل بيت
في الداخل، يتربع الديواخان – Diwanxan كأنه عمود البيت الفقري.
هنا تبدأ القصص، وهنا تنتهي.
مركز الضيافة:
السجاد اليدوي الملون يفترش الأرض، وتُقدَّم أكواب الشاي "الاستكان" التي أصبحت رمزًا للدفء والكرم.
ملتقى العائلة:
حول الموقد تتعانق الحكايات القديمة مع ضحكات الصغار، ويجلس كبار السن ليعيدوا سرد قصص الجبال، والسفر، والمقاومة.
متحف مصغر:
خناجر معلّقة، بنادق قديمة، قطع خشبية منحوتة، وآلات موسيقية مثل الطنبور والدوزلة…
كل زاوية تحمل أثراً من زمن بعيد.
وفي المطبخ، تفوح رائحة خبز التنور فجرًا، بينما في الساحة (الحوش) تُربّى الدجاج والماعز، ويجري الأطفال بين أحواض الماء وكأنهم جزء من هذا النظام البيئي المنزلي المتكامل.
النساء… صانعات الجدران وحارسات الذاكرة
ليس البيت الكردي رمزًا للرجال وحدهم؛ بل هو مملكة النساء أيضاً.
في صناعة البيت:
كنّ يشاركن رجالهن في جلب الطين وخلطه بالتبن.
يبلّلن الأرض ويدعكن الجدران بأيديهن حتى تصبح ملساء، وتتحول إلى جدار مقاوم للمطر والثلج.
ينسجن السقوف المصنوعة من القصب والخشب، ويشرفن على ترتيب الحجر في زوايا البيت.
كانت المرأة الكوردية جزءاً من عملية البناء، لا متلقية له فقط.
في داخل البيت:
ينسجن السجاد والكليم على الأنوال اليدوية، حيث تحكي النقوش الملونة قصص الحب، والخصوبة، والجبال.
يُحضّرن الخبز في التنور، ويصنعن الجبن والزبدة واللبن.
يخزنَّ المؤن لفصل الشتاء الطويل: دبس العنب، الخبز اليابس "نان خوشتا"، وتجفيف الأعشاب الطبية.
يصنعن الملابس التقليدية ويطرزن الأقمشة بخيوط حريرية.
كانت المرأة الكردية هي ذاكرة البيت… تحفظ أغانيه، وتعيد تدوير صوته في الليالي الباردة.
المتحف الحي… حين يتحول المنزل إلى أرشيف
متحف "بيت الكرد" في السليمانية يقدم اليوم نموذجاً لما كانت عليه هذه البيوت.
أدوات الطبخ، السجاد، الأسلحة، أجهزة طحن الحبوب، وحتى الفوانيس القديمة…
كل قطعة موجودة في البيوت حتى وقت قريب.
لكن الحقيقة أن كل قرية في كافة المناطق الكوردية تحمل "متحفاً حياً" داخل بيوتها. فكل بيت يحتفظ بقطعة من الماضي، وبحكاية محفوظة في صندوق خشبي أو خلف باب حجري.
البيت الكوردي اليوم… الحداثة التي لم تمحُ الذاكرة
رغم أن المدن توسعت وتغيرت، إلا أن الروح بقيت:
سجادة على الأرض، آلة موسيقية على الحائط، صورة جدٍّ يبتسم من زمن بعيد…
ورائحة خبز ما تزال تُصنع بحب.
البيت الكوردي اليوم لا يزال يُدرّس درسًا واحدًا:
الهوية ليست جدرانًا، بل ذاكرة تُنقش في الحجر، والصوت، والوجوه، والعمل الذي لا يتوقف.![]()
![]()
![]()
![]()
![]()
![]()