×

أخر الأخبار

بركة "مباركة" شرق ديالى... عين كبريتية يقصدها الكورد الفيلية منذ قرون طلباً للشفاء

  • 17-09-2025, 19:02
  • 163 مشاهدة

  مندلي . ايناس الوندي
في قلب مندلي، وعلى مقربة من مرقد الحاج يوسف، تنبض بركة ماء كبريتية نادرة، يطلق عليها الأهالي "المباركة". مياهها الفوّارة التي تخرج من باطن الأرض تحمل بين أملاحها المعدنية أسراراً قديمة للشفاء من الأمراض الجلدية، لتصبح منذ مئات السنين نقطة جذب لسكان المنطقة والزائرين من مختلف مدن ديالى، وعلى رأسهم الكورد الفيلية الذين ارتبطت حياتهم الروحية والاجتماعية بهذه البقعة.
"هذه البركة ليست مجرد عين ماء"، يقول مدير مزارات ديالى حسين الباوي، موضحاً أن "تاريخها يمتد لقرون طويلة، وقد تشكّلت بفعل نبع يخرج من أسفل المرقد، يحتوي على خصائص معدنية نادرة تشفي أمراض الجلد". لكنه يستدرك: "المكان ما زال بحاجة إلى عناية وتنظيم ليستفيد منه الناس بشكل أكبر".

طقوس الفيليين عند البركة
لم يكن ارتياد البركة بالنسبة للكورد الفيلية مجرد استحمام في ماء معدني، بل كان أشبه بطقس جماعي يختلط فيه البعد العلاجي بالروحاني. الحاج كريم فيلي (65 عاماً) يستعيد ذكرياته قائلاً: "منذ صغري كنت أرافق والدي إلى هنا، كان يقول إن ماء الحاج يوسف يداوي الجسد والروح معاً. كنا نقطع المسافة مشياً من بيوت الكورد الفيلية في أطراف مندلي لنغتسل في هذه المياه ونضع الطين على جلودنا، ثم نصلي عند المرقد ونوزع الطعام للفقراء".
يصف كبار السن من الفيلية أن زياراتهم للبركة كانت تتحول إلى موسم عائلي، حيث تلتقي الأسر، ويتبادل الناس الأحاديث والأدعية، بينما يُنقل للأطفال أن "الماء المبارك" نعمة من الله تحفظهم من الأمراض. النساء كنّ يملأن القناني بالماء ليأخذنها إلى البيوت، فيما كان بعض الرجال يحتفظون بالطين الكبريتي لاستعماله لاحقاً كعلاج تقليدي.

بين الذاكرة والحاضر
البركة ما زالت إلى اليوم وجهة لعشرات العائلات يومياً، لكن أعداد الزائرين تتضاعف في المناسبات والأعياد، حيث يفد إليها أبناء المنطقة والفيلية على وجه الخصوص، باعتبارها مكاناً يجمع بين العلاج الطبيعي والبركة الدينية والتقليد الاجتماعي الموروث.

وبرغم الإقبال، يبقى التحدي الأكبر هو غياب الاهتمام الرسمي. فلو جرى تطوير الموقع وتحويله إلى مركز للسياحة العلاجية، فإن مندلي لن تستعيد فقط مكانتها التاريخية، بل ستُعيد أيضاً وصل حاضرها بذاكرة الكورد الفيلية الذين حفظوا هذا التقليد جيلاً بعد جيل.

رمزية البقاء
ورغم إهمال الدولة، تظل بركة الحاج يوسف أكثر من مجرد مصدر للماء. فهي رمز لصمود مجتمع بكامله. مياهها التي تشفي الجلد، تروي في العمق حكاية شفاء أمة فيلية من جراح التهجير والتغييب. إنها رسالة بقاء، تقول إن الفيلية كما هذه العين، ينبعون من الأرض ويجددون أنفسهم مهما قست الظروف.

ختاما. ورغم الإقبال الشعبي، تبقى بركة الحاج يوسف شاهدة على إهمال طويل. فهي ليست مجرد عين ماء كبريتية، بل ذاكرة حيّة تختزن قصص أجيال من الكورد الفيلية الذين شدّوا الرحال إليها طلباً للشفاء والبركة. هنا، كانت العوائل تغتسل بالماء وتضع الطين على أجسادها، وكأنها تعمدت من جديد بالحياة.
اليوم، ما زال الفيلية يأتون مع غيرهم من أبناء ديالى، يحملون أطفالهم ويستعيدون تقليداً توارثوه منذ القدم. بركة الماء التي تشفي الجلد، تحمل في عمقها أيضاً رمزاً لشفاء الروح الفيلية من جراح التهجير والنسيان. إنها رسالة بقاء، تقول إن الفيلية كما هذه العين، ينبعون من الأرض ويجددون أنفسهم مهما مرّت عليهم الأزمات.