ماهي حقيقة التشيع العلوي والتشيع الصفوي؟
خلال فترة الإعداد لكتابي "الاجتماع الديني الشيعي" وتدوينه، والتي استمرت أكثر من ثلاث سنوات؛ توافرت لي فرصة دراسة بيئات تدوين علوم ومعارف المدرسة الشيعية، منذ عهد الإمام محمد الباقر وحتى الآن، وتحديداً في مجالات العقيدة والحديث والتفسير والفقه، ومساراتها التراكمية، ورموزها المحدثين والمتكلمين والفقهاء الموصولين جيلياً ببعض، ومنها ما تم تدوينه في مرحلة الدولة الصفوية وما قبلها وبعدها؛ فإني لم أعثر على شيء اسمه "التشيع الصفوي" إطلاقاً، ولا نشوء أي تشيع آخر يتمايز عن تشيع علي بن أبي طالب وأئمة أهل البيت؛ إلّا إذا عُدّ تمايز المذاهب الشيعية الأخرى عن المذهب الإمامي الإثني عشري، كالزيدية والاسماعيلية، بأنه تشيع مفارِق لمسار التشيع الإثني عشري عقدياً وفقهياً وقواعدياً وتاريخياً. أما المدارس الحديثية والفقهية والأصولية التي تتنوع في قراءتها لأصول التشيع وأدوات هذه القراءة؛ كالإخبارية والأصولية وغيرهما؛ فلا يمكن فرزها كتشيّعات جديدة متعارضة أو متضادة، وإعطاءها تسميات انشقاقية؛ لأن الخلافات بينها خلافات علمية طبيعية غالباً، ولاتصل الى مستوى الإنشقاق المذهبي إطلاقاً.
وإذا كان المتهم بتأسيس التشيع الصفوي، هم ملوك الصفويين؛ فإن هؤلاء الملوك وذويهم لم يكونوا فقهاء ومحدثين ومتكلمين، لكي يؤسسوا مدرسة عقدية وفقهية شيعية جديدة تتعارض مع تشيع أهل البيت؛ بل كانوا يأخذون شرعيتهم في الحكم وفتاواهم من مراجع وفقهاء عصرهم، وكان الفقهاء العرب من لبنان والبحرين والعراق، كالشيخ الكركي والشيخ البهائي وحسن بن زين الدين العاملي والشيخ الحر العاملي والشيخ الجباعي والسيد نعمة الله الجزائري؛ هم أصحاب الفتوى ومروجي عقيدة أهل البيت وفقههم وحديثهم في جغرافيا الدولة الصفوية، ولم يكن للأسرة الصفوية الحاكمة أية دالة وسطوة على هؤلاء الفقهاء، بل العكس هو الصحيح، وهو خلاف ما كان يحدث في الدولة العثمانية؛ حيث كان المشايخ والمفتين مجرد موظفين عند السلطان العثماني.
وبالتالي؛ كان يستحيل على الأسرة الصفوية إيجاد تشيع جديد ومذهب فقهي جديد، غير مذهب الإمام الصادق، وغير فقه الصدوق والمرتضى والمفيد والطوسي وابن إدريس والحلي والشهيدين العامليين، وخاصة في ظل وجود الفقهاء العرب في العاصمة الصفوية إصفهان، والقابضين بإحكام على الوضع الديني في البلاط وجميع مفاصل الدولة، فضلاً عن يقضة فقهاء النجف وكربلاء وجبل عامل، وأغلبهم كان يراقب حراكات الدولة الصفوية ويمضيها.
نعم؛ أسس الصفويون لمدرسة مذهبية جديدة في سلوكيات الحكم، لم تكن مألوفة في الدول الشيعية التي سبقتها، وتتمثل في الاهتمام رسمياً بتعظيم شعائر أهل البيت وذكرهم وسيرتهم وفضائلهم، وخاصة ذكرى استشهاد الإمام الحسين، وفي فتح البلدان وتأسيس الممالك باسم أهل البيت، وبهدف تبليغ سيرتهم وتعاليمهم، وفي دعم الحوزات العلمية والعلماء، ونشر المبلغين في كل جغرافيا الدولة، بإشراف مباشر من المرجعية الدينية.
كما مثلت المدرسة الصفوية في الحكم والسلوك السياسي، تحولاً في التاريخ الشيعي؛ لأنها كانت، عبر استخدام خطاب الاستنهاض المذهبي الشيعي، تواجه المحاولات العثمانية في اجتثاث الشيعة، وما فعلته من فضائع وأهوال بشيعة تركيا وسوريا ولبنان والقوقاز. كما كان خطاب الاستنهاض الصفوي يفعل فعله في عملية تعزيز روح المقاومة والعنفوان والإقدام لدى الإنسان الشيعي، والدفاع عن وجوده ومجتمعه، وهي في حقيقتها عودة الى السلوك السياسي للمختار الثقفي؛ لأن الصفويين كانوا ــ كالمختار ــ أصحاب مشروع ديني شيعي، وليسوا مجرد حكام شيعة، أي أنهم يختلفون في نهجهم السياسي المذهبي عن الأسر الشيعية الحاكمة الأخرى، كالإدريسية والبويهية والحمدانية والفاطمية، ولذلك اندثرت آثار هذه الدول، خلال سنوات معدودات بعد سقوطها؛ بل تعرّض مواطنوها الشيعة الى أبشع ألوان الاجتثاث والتحويل المذهبي على يد صلاح الدين الأيوبي والمماليك والعثمانيين، وماتت هذه الدول دون تحقيق إنجاز على الأرض، أو دون القدرة على المحافظة على إنجازاتها؛ بينما لايزال النهج النهضوي السياسي المذهبي للدولة الصفوية قائماً، ولاتزال انجازاتها المذهبية حاضرة، من جنوب لبنان وحتى أقاصي الهند، وهو ما يجعل الدولة الصفوية أكثر الدول الشيعية في التاريخ تعرضاً للكراهية والتشويه من الطائفيين والمعارضين؛ لأنها كانت صاحبة نهضة شيعية شاملة، كما ذكرنا.
وسواء كان السلوك الصفوي يتم بدوافع سياسية مصلحية وسلطوية، أو بدوافع دينية، أو خليط من الإثنين؛ فإنه كان يجري لمصلحة الشيعة في النتيجة، بمن فيهم الشيعة العرب، ويحافظ على كيانيتهم وأرواحهم ومعتقداتهم وشعائرهم من حملات الاجتثاث المستمرة، وحينها لايعني الشيعي البحث والتنقيب عن دوافع الشيعي الآخر الذي يدعمه ويحميه ويدفعه الى الإمام، من أجل تحقيق أهدافه الدينية والدنيوية؛ لأن ما يجمع الطرفين هي المصلحة المذهبية المشتركة العليا، والتي ظلت تتعرض للمخاطر من الآخر الطائفي أو المستعمر على مر الزمن.
ولذلك؛ كانت سلوكيات المدرسة الصفوية في الحكم ممضية من فقهاء الشيعة في ايران والعراق ولبنان آنذاك، وتلقى دعماً وتشجيعاً من الحوزات العلمية؛ رغم أن في بعض هذه السلوكيات مبالغة أو خروجاً على المتعارف. ولكنه لم يكن سوى سلوك، ولايمثل عقيدة جديدة أو فقهاً جديداً بأي نحو كان.
أما إذا كان المقصود بالتشيع الصفوي هو التشيع الذي أوجده فقهاء العصر الصفوي؛ فهذا الكلام يدل على الجهل بمسارات الحراك العلمي الشيعي وانسيابيته وتوارثه من جيل لآخر دون انقطاع، من عصر الأئمة وحتى الآن. وتؤكد سلسلة توالي الفقهاء الشيعة عدم حدوث أي انقطاع ولو للحظة واحدة، بما في ذلك مرحلة العصر الصفوي وما قبلها وبعدها.
وأقول بكل وضوح، إن ما يقصده الطائفيون والعلمانيون والمغفلون بمصطلح التشيع الصفوي هو إنجاز الدولة الصفوية في إحداث نهضة شيعية علمية وسياسية وعسكرية وتبليغية عالمية، كان من مظاهرها توسيع رقعة مذهب اهل البيت في كل ايران وشبه القارة الهندية وشرق آسيا والقوقاز، وحماية الشيعة العرب في العراق وسوريا ولبنان والواحات الخليجية من حروب الإبادة التي كانت تشنها الدولة العثمانية وغيرها من دول النصب والطائفية، ودفع المجتمعات الشيعية للنهوض والتصدي؛ هذه الإنجازات تجعل الطائفي يكره الدولة الصفوية بالفطرة، ويصف كل شيعي ناهض ومدافع عن حقه بأنه صفوي، ولايريد للشيعي العربي أن يحظى بالحماية والظهير؛ بل يبقى مكشوف الظهر؛ ليفعل به صلاح الدين الأيوبي وسليم الأول وآل سعود وصدام وأمريكا وإسرائيل والقاعدة وداعش ما يشاؤون من فنون الاضطهاد والقتل والتشريد والحصار.
وأزعم أنني مطلع على أغلب ما كتب وقيل حول مزاعم وجود تشيع صفوي، سواء من كتّاب أجانب وإيرانيين وعرب أو علماء دين ومفكرين، ولم أجد إطلاقاً - كما ذكرت في بداية المقال- أي دليل على وجود هويتين عقديتين وفقهيتين مختلفتين، واحدة تمثل التشيع العلوي والأخرى تمثل التشيع الصفوي؛ بل كل الكلام الذي يدور هو عن سلوكيات الحكم الصفوي، السياسية والمذهبية، إضافة الى التعكز على تبني بعض ملوك الصفوية المتأخرين للمدرسة الإخبارية خلال فترة المماحكات بين الإخباريين والأصوليين، وبعض أحاديث كتاب بحار الأنوار للعلامة المجلسي، وغيرها من الأدلة المتهافتة.
ولعل من أكثر الكتابات التي أساءت للشيعة، وساهمت في تحريف الوعي تجاه التشيع، وفتحت أبواب الدعاية الطائفية والعلمانية المضادة لمدرسة أهل البيت؛ لتنكل بالشيعة وتبتزهم وتتهمهم بكل أنواع التهم الظالمة؛ هو كتاب "التشيع العلوي والتشيع الصفوي"، الذي كتبه علي شريعتي، في إطار مناكفاته مع الفقهاء والحوزة، وحالة الإستعلاء والجبروت الثقافي التي كان ينطلق منها، وهو الشاب الثلاثيني المندفع العائد تواً من فرنسا، بعد أن تخرج على أستاذه المستشرق "ماسينيون"، مستشار وزارة المستعمرات الفرنسية والموجه الروحي للبعثات التبشيرية المسيحية في مصر. ويتماهى كتاب شريعتي المذكور في روحه ومضامينه مع كتابات العلماني المتحول أحمد كسروي، ولاسيما كتابه "أسرار ألف عام" بشكل خاص، ومع الدعاية العثمانية الطائفية الموروثة، والتي كانت تستخدمها ضد الشيعة، بغطاء محاربة الدولة الصفوية.
لذلك؛ تجد أن هناك تشجيعاً من الأوساط السياسية الطائفية وبعض المغفلين؛ باقتناء كتاب "التشيع الصفوي" وقراءته، وكذا تشجيع قراءة كتب أحمد كسروي؛ برغم أن الأخير لم يكن يخفي إلحاده، لكن تنشيط حركة ترجمة كتبه وتوزيعها بالمجان؛ إنما هي نكاية بالشيعة. وبناء على المقولات الإنشائية والمصطلحات المتهافتة لشريعتي في كتابه المذكور؛ يردد الطائفيون والعلمانيون مصطلح التشيع الصفوي والتشيع العلوي، أو التشيع الفارسي والتشيع العربي، دون أدنى معرفة بتاريخ مدرسة أهل البيت ومسارات تدوين علوم هذه المدرسة ورموزها، في الحديث والكلام والتفسير والفقه والأصول، وإنما هو مجرد ترديد كلام للمناكفات الدعائية والتصعيد الطائفي والتخوين.
ختاما؛ أضع الأسئلة التالية أمام من يدعي وجود أنواع التشيع المذكورة المختلفة، بمن فيهم الذين كتبوا ونظّروا وتكلموا في هذا المجال، وأطالبه بالإجابة على الأسئلة بمنهج علمي، بعيداً عن المهاترات والكلام الإنشائي والإسقاطات الطائفية: