×

أخر الأخبار

أمي والأمل المفقود

  • 22-03-2021, 08:42
  • 479 مشاهدة
  • د. عطور الموسوي

ذات يوم من أوائل خريف عام 1980اعتقلوا أخي الكبير السيد جمال الموسوي، طالب في كلية الهندسة المرحلة الثالثة بعد شهر واحد من اندلاع حرب الثمانية أعوام بين العراق وجارته إيران التي تحّده بألف ونصف ألف من الكيلومترات من شماله الى جنوبه ..
لم تنصت والدتي لمن قال لها: إنهم يغيبونهم وراء الشمس !! ولم تستلم وأصرت على أن تستمع لنبضات قلبها المفجوع، وأن تبحث عنه ما مكنتها الظروف.. علّها تجد بصيص أمل يهدأ روعها، فكانت كل يوم تأخذ كيسا فيه بضع ملابس وطعام وتدور على دوائر الأمن المعروفة تسأل ولا من مجيب، لم تفكر في تعب أو جوع أو عطش  وتعود أدراجها آخر النهار وقد أعياها التعب واختنقت بعبرات أبت سكبها أمام جلادين جابهوها عند الأبواب ونهروها وزجروها بأفظع الألفاظ، ولم تجد عندهم جوابا لسؤالها : أين ولدي الحبيب؟!
تعددت مقرات الاعتقال وخرجت عن المألوف وتمثلت ببيوت المسفرين، وكلما سمعت بمكان محتمل وجوده فيه، سارعت اليه وهي قد وجدت رفقة ألم وثكل من أمهات شاركنها ذات المصاب، وعبثا ذهبت كلمات والدي رحمه الله حين واساها: لا جدوى مما تفعلين..لا يعلم مكانه الا الله فعليك أن لا تتأملي أن يتعاون معك هؤلاء المجرمون.
وبعد أقل من عام اعتقلوا أخي السيد جلال ذا السبعة عشر ربيعا وكان طالبا في المرحلة الإعداية ليزيدوها ثكلا فوق ثكل ..لكنها لم تواصل رحلتها اليومية تلك وانما اكتفت بالصبر والدعاء .. نعم علمت أنهم أناس بلا قلوب وأنها لن تجد منهم الا الأذى والإهانات وهذا ما لا يرضاه إخوتي لها ..
كنت أراها تبكي في لحظة من اللحظات وتتوجع وكأنها تستشعر سياطهم على أجساد ولديها وتتمتم : "انتو بحفظ الله يمه وعينه المتنام " .. وتنادي ربها ربي انهما وديعتان عندك وفي حرزك الذي يضام..
ظلت تترقب عودتهما بعد كل عفو يصدره المجرم صدام بضغط من الأمم المتحدة بعد حربه مع الجارة الكويت دون جدوى، لكنها لم تفقد الامل بعودتهما ..ومنت نفسها بعودتهما وبزواجهما ورسمت في مخيلتها صور لأولادهما يحفان بها..ولم تتوقف عن الدعاء لخلاصهما من السجن وتردد : يا راد يوسف على يعقوب ردهما علي بقدرتك ..
في 9 نيسان 2003 عندما أظهر التلفزيون العراقي صور السجون وقد فتحت أبوابها وقد خلت من سجنائها، راعها ذلك وظلت تناشدنا واحدا واحدا :هلموا اليهما ربما سيموتون من الجوع والعطش بعد أن هرب الجلادون ..
هرع ما تبقى من أخوتي ومعارفنا، لكنهم وجدوا أسماءهم قد أخذت تسلسلا في قوائم الشهداء العديدة التي ملأت جدران دوائر امن الطاغية المنتشرة في بغداد ..
ومررنا بمحنة أشد من يوم اعتقالهما كيف سنخبرها بأنهما شهيدان مع الشهداء وهي التي أعدت لهما متطلبات الزواج من حلي ومفارش وملابس !!!
فجعت أمي وقرأت ما في أعيننا من دموع فبكت بكاءا مريرا وأقعدت عن السير لأيام مصدومة .. لكننا ومجموعة من أخوات الشهداء قررنا إخراج أمهاتنا من حزنهن المقيم وربط قضيتهن بقضية الإمام الحسين عليه السلام، فأقمنا مجلس عزاء جماعي للشهداء  في جامع وحسينية علي البياع، وجمعناهن من أنحاء بغداد وجلسن يستمعن للمراثي الحسينية ويبكين وتعرفت كل منهن على مصيبة الأخرى، فهانت عليها مصيبتها يوم وجدت أمهات ثكلن بثلاثة وأربعة شهداء ومنهن من ثكلت بشهيدات ..
هنا بلسمت جراحها وقالت ما دمنا على خط الحسين هنيئا لكما الشهادة ..قررت أن تشد الرحال الى كربلاء فالزيارة الأربعينية قد صادفت بعد أيام من تاريخ سقوط يزيد العراق، حرصت كل عام على المشاركة فيها رغم التقييد الكبير من قبل السلطة الجائرة حينها كانت تدعو لهما بالفرج ولكل من معهم .. لكنها هذا العام صارت شخصا من شخوصها وواست سيدة كربلاء بشهدائها وزارته عليه السلام وكأنها ممن قدم له النصر وفداه بالولد  يوم نادى : هل من ناصر ينصرني ؟
عادت ولسان حالها يقول: حسبي إذا ذكر الشهيد بأنني أم الشهيد..
واكتفت بالقبور الرمزية التي أقمناها لهما عند قبر والدي في مقبرتنا في أرض الغري، وصارت  تزورهم وتتلو عندهم آيات الذكر الحكيم وتشعل عيدان البخور، وتسال الله اللحاق بهم وأن يستقبلاها عند باب الجنة، ومنذ ذلك اليوم سخرت مالها لخدمة عيال الله من أرامل وأيتام تتصدق نيابة عنهما ووجدت بذلك تواصلا جميلا عوضها عن أملها المفقود.