إعداد: إيناس الوندي
لم تكن الزينة يوماً في المجتمع الكوردي–وخاصة بين النساء الفيليات
ترفاً أو تقليداً عابراً؛ بل كانت هوية كاملة تُحفر على الوجوه والأيدي، وترافق المرأة منذ طفولتها حتى شيخوختها. الوشم، أو ما يُسمّى محلياً “دەسمل” أو "الخال" عند الفيليّات، كان علامة جمال، ورمز انتماء، وطقساً اجتماعياً تؤديه النساء بعضهن لبعض، كأنه حوار صامت بين الأجيال.
طقس الوشم… مهارة تتوارثها الجدّات
في القرى والأحياء القديمة، كانت النساء يتجمعن في صباحات الشتاء الدافئة قرب التنور الطيني. ليس دائماً لصناعة الخبز، بل أحياناً لإعداد المادة الأساس للوشم: رماد التنور.
كانت المرأة الفيليّة تجمع الرماد الناعم، وتخلطه بقطرة ماء أو بزيت بسيط، ثم تُحضر إبرة رفيعة، غالباً من أدوات الخياطة المنزلية. لا توجد أدوات معقمة أو تجهيزات حديثة، بل خبرة عالية ويد ثابتة وصبر طويل.
لم يكن الهدف جرح البشرة، بل غرز الإبرة بخفة في نقاط صغيرة جداً. تمتزج نقاط الدم السطحية مع الرماد، فيتحول اللون بعد أيام إلى أخضر داكن — اللون الأشهر بين المرأة الفيليّة — بينما يتحول إلى الأسود عند بعض القرى، حسب نوع الرماد المستخدم.
ورغم بساطة الأدوات، كانت النساء حريصات على أن تكون العملية سريعة وغير مؤذية. تضع “المحنّكة” في الوشم قطعة قماش دافئة على بشرة الفتاة، لتهدئة الجلد. كل شيء يتم برويّة وحنان، وبكلمات تشجيع تقولها الكبيرة للصغيرة:
"تره هذني زيناتچ، يطلعنچ جملة."
ماذا كانت ترسم النساء؟
الأشكال تختلف حسب المنطقة، لكن الفيليات تميزن بأربعة أنماط رئيسية:
1. نقطة الذقن (بەنداوە)
النقطة الصغيرة أسفل الشفة… ربما أشهر علامة على وجه المرأة الكوردية القديمة.
كانت تُعد رمز جمال، وتُقال عنها أمثال شعبية:
"النقطة تحت الگصة، زينة للمره ورفعة راس."
2. خطوط رفيعة قرب الفم
تُسمّى أحياناً “شارە”، تمتد بخط دقيق من زاوية الشفة نحو الأسفل.
كانت النساء يعتقدن أنها تمنح “بهجة” للوجه وتُبرز الابتسامة.
3. وشم اليدين
غالباً على شكل نقاط متسلسلة أو نجمة صغيرة على ظاهر الكف.
كانت المرأة الريفية تعتبر اليد الموشومة “يد عاملة وشريفة”.
4. رموز بسيطة
نقطة بين الحاجبين، أو علامة على جانب الأنف.
وهي غالباً مرتبطة بالزينة أو المعتقدات الشعبية مثل جلب الحظ أو الحماية من العين.
وشم المدينة والريف… اختلافات لافتة
في المدن مثل خانقين وكرماشان وكركوك، كانت التصاميم أكثر دقة وأقل انتشاراً على مساحات واسعة من الوجه، مراعاةً لـ“تحضّر” المجتمع آنذاك.
بينما في القرى والمناطق الحدودية، كانت المرأة تميل إلى الوشم الواضح والبارز، كجزء من هويتها اليومية منها فضاء المندلي .
فالمرأة الريفية كانت تقول:
"هذا وشم أمي وجدتي… وهوية ما نتخلى عنها"
خلف الوشم… رمزية لا يعرفها كثيرون
لم يكن الوشم مجرّد زينة؛ بل كان يحمل معاني اجتماعية:
علامة بلوغ: أحياناً يُرسم أول وشم عند دخول الفتاة سن المراهقة.
هوية قومية: بعض العلامات تدل على الانتماء لعائلة أو عشيرة.
زينة الفرح: كثير من الوشم كان يُرسم قبل الزفاف.
قوة ورمزية: كانت المرأة تشعر بالفخر وهي تحمل علامة توارثتها عن أمها وجدتها.
لماذا اختفى الوشم؟
مع دخول المدارس، وانتشار التصوير، وتغيّر معايير الجمال، بدأ الوشم يتراجع.
أصبحت المرأة تشعر أن الوشم "عادة قديمة"، وبدأت صالات التجميل تزيله بالليزر، لكن بقيت آثار خضراء شاحبة على وجوه الجدّات… آثار تشبه صفحات من كتاب مفتوح على ذاكرة جيل كامل.
شهادة امرأة فيليّة من خانقين
إحدى النساء (في السبعين من عمرها) تقول:
"سوّيت النقطة بيدي. أمي علمتني. هسه كل ما أشوف بناتي بلا وشم، أكول: راحت أيام الزينة."
الوشم اليوم… إرث يحتاج توثيق
ختاماً، يبقى وشم النساء الكورديات، وخاصة الفيليات، إرثاً بصرياً وإنسانياً يجسد علاقة المرأة بالأرض والتقاليد والجمال الشعبي.
هو جزء من ذاكرة مجتمع كامل، يحتاج إلى توثيق قبل أن يختفي تماماً، خصوصاً مع رحيل الجيل الذي حمله على وجوهه بفخر.