بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله الذي جعل الكلمة موقفاً يُحتذى، والشهادةَ خلوداً يرفع رايات الحق، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى أهل بيته، مصابيح الهدى الذين أضاءوا درب الحق للسالكين.
في التاسع من نيسان، نستذكر حدثين جليلين نُقشت تفاصيلهما في سفر تاريخ العراق الحديث: سقوط أشد طغاة العصر، وارتقاء أبرز رموز الإصلاح. الأول هو زوال نظام صدام حسين عام ٢٠٠٣، الذي شيّد عرشه على أنقاض دماء الأبرياء، وأسس سلطته على قمع الحُرّاء وإرهاب المُعتَقلين. فما ترك حرثاً إلا دمره، ولا نسلًا إلا أفناه، حتى امتلأت أرض العراق مقابر جماعية للشيوخ والأطفال والنساء، ظلّ بعضها مجهولاً حتى اليوم. لقد عانى الشعب تحت نير حروبه الطائشة التي ذهب ضحيتها الملايين، وخلّفت وراءها أراملَ ويتامى وشعباً مُنهَكاً، محروماً من أبسط مقومات الحياة والعلم.
لكن قدرة الله أرادت أن يكون سقوط هذا الطاغية في شهر نيسان نفسه الذي شهد جريمةً أخرى من جرائمه النكراء: إعدام المفكّر الثائر السيد محمد باقر الصدر، وشقيقته العلوية بنت الهدى، رمزَ التضحية والعطاء. فكما أُزهقت أرواحهما في هذا الشهر، أُزهقَ معهما مشروع الطاغية لتدمير هوية العراق. لقد أراد الله أن يحيي ذكراهما في أيام سقوط النظام، ليكون عبرةً بأن العدل الإلهي لا يُغادر صغيرةً ولا كبيرة.
وفي ذكرى الشهيدة آمنة الصدر (بنت الهدى)، نستلهم قصة امرأة حوّلت المحنة إلى منحة، فكانت كالفراشة الحانية التي أدارت مدارس الزهراء، وربّت أجيالاً من النساء على قيم الإسلام الأصيل، في زمن سعى النظام البائد إلى طمس الهوية وتفكيك المجتمع. لم تكن مجرّد معلمة، بل قائدة روحية صنعت من بيوت النسوة منارات وعي، ومنحت العراق أمهاتٍ قادراتٍ على مواجهة الظلم، حتى إن بعض تلميذاتها استشهدنَ مرفوعات الرأس في ساحات الإعدام.
اليوم، ونحن نقف عند مفترق طرقٍ بين الحق والباطل، نجد ذكرى هؤلاء الشهداء تُلهمنا الصمود. فسقوط الطاغية لم يكن نهاية المطاف، بل بداية لمعركةٍ أشد: معركة الحفاظ على القيم التي ضحى من أجلها الأبرار. لقد انتصرت بنت الهدى وهي تُساق إلى المشنقة، لأنها زرعت في قلوب الأجيال بذور المقاومة، وعلّمتنا أن العمل الخالص لله لا يندثر، بل ينمو كالشجرة الطيبة.
فيا من تسيرين على دربها، ويا من تحملين راية الإصلاح، إن ذكرى الشهداء ليست دموعاً تُذرف، بل وقودٌ يُشعل العزم. فما زال عطاء بنت الهدى يغمرنا، وما زالت كلمتها تُنير الدرب، لأن ما كان لله يبقى، وما كان للظلم يزول.