×

أخر الأخبار

العمارة الأجنبية في العراق

  • 6-03-2022, 11:00
  • 714 مشاهدة
  • د. صلاح عبد الرزاق

شارع حيفا ... حصن أتباع الرئيس ٢ - ٢

د. صلاح عبد الرزاق

نشر في ٦ آذار ٢٠٢٢

الأهداف الأمنية والسياسية وراء مشروع حيفا
 قد يستغرب البعض عندما يعلم أن الفكرة العميقة التي تقف خلف تطوير شارع حيفا كانت تدور حول تخلص صدام من كل ذكرياته المريرة في هذه المنطقة. إذ هاجر إليها بعد أن اضطرته الظروف لمغادرة قريته العوجة وهو فتى مراهق. وكانت يتعرض للتنمر من شباب ورجال وشقاوات منطقة الجعيفر والرحمانية. لذلك عندما أصبح نائباً للرئيس ومن ثم رئيساً للجمهورية حرص على إزالة كل معالمها وبيوتها التراثية بلا رحمة كي يطويها النسيان بشخوصها وأحداثها وذكريات أهلها وكل معالمها.  

يحلل الدكتور جمال حسين أهداف المشروع فيقول: لم تبن العمارات لإسكان الشعب أو المواطنين المحتاجين لمسكن بل بنيت لمن يرضى عنهم الرئيس، حيث كانت الشقة تعني تسليم ذمة المستلم للرئيس.
وبدلا من ان يتم توزيع شقق هذه العمارات على أهالي منطقة الشواكة والجعيفر الذين هدمت بيوتهم من أجل إنشاء الشارع وكما وعدتهم الدولة، تم توزيع غالبية الشقق على المسؤولين في الحزب والحكومة، كما تم منح غالبيتها مجانا الى السوريين البعثيين الموالين لبعث صدام والعاملين في مكاتب القيادة القومية، وكذلك لبعثيين فلسطينيين. وكان أهالي المناطق الفقيرة المجاورة لعمارات حيفا لا يخفون امتعاضهم من سكنة المجمع السكني من السوريين والفلسطينيين إضافة إلى السودانيين العاملين في أعمال الصيانة والتنظيف، والذي أقيم على أنقاض محلاتهم وأحيائهم وبيوتهم والفاقدة لأبسط الخدمات.

فالمجمعات السكنية التي بنيت على شكل عمارات تتراوح من 11 الى 22 طابقا مجهزة بالتكييف المركزي والماء البارد والحار والمصاعد وأسلوب الاتصالات المتطور (في ذلك الوقت) ومواقف السيارات المتسلقة تحت الأرض والأسواق المركزية وتبليط شوارع الخمس نجوم في المنطقة، كانت مشروعا في ذهن الرئيس لمكافأة الموالين القدامى وشراء المزيد من الجدد.

ولأول مرة في تاريخ الدول، تكون شؤون شارع حيفا مرتبطة مباشرة برئيس الدولة، واستحدثوا قسما متكاملا في مكتب رئاسة الجمهورية يتولى هذا الأمر. وكان سكرتير الرئيس الذي تناوب عليه الكثير من الوجوه المعروفة ابتداء من صباح ميرزا ومن ثم حسين كامل وأرشد ياسين وانتهاء بعبد حمود، يوزعون الظروف ما أن يقرأوا العبارة الرئاسية المكتوبة بخط رديء على عريضة أو ورقة صغيرة، أو على كتاب رسمي أو بأمر شفهي : يمنح شقة في شارع حيفا.

وكانت ثمة إشارة يضعها الرئيس متفق عليها، ففي الكثير من الأحيان، لا يمنح الرئيس الشقة الى بائع ذمته مباشرة، بل يمنحها إليه لعشر سنوات وبدون تمليك، وإذا رضي عنه خلال هذه الفترة يملكونها له.

ويمكن تصور عملية منح هذه الهبات بكل بساطة، ففي مكتب رئاسة الجمهورية القسم الخاص بحيفا كما أشرنا، وفي هذا القسم قسم الظروف الخاصة التي تحتوي على: ورقة تمليك (نهائي أو لعشر سنوات) ومفتاح الشقة.

والغريب ان أحدا في دائرة التسجيل العقاري لا يعرف شيئا بخصوص هذه القطعة المسروقة من بغداد، فأسماء المالكين وسكان شارع حيفا تعد من أسرار الدولة العليا، ولا ينبغي لأحد خارج الديوان معرفة ما يجري في «جمهورية الرئيس».

هكذا كان صدام مهموما بهذا الشارع وسكانه، يعرف كل تفاصيلهم وأرقام سياراتهم ومقدار كهربائهم وفواتير تلفوناتهم ومقدار الماء الحار الذي يستخدمونه في الشتاء والبارد في الصيف وعدد المرات التي يتزوجون فيها ومن يزورهم ومتى يطفئون الأنوار ويخلدون للنوم. إذ كانت تصله تقارير مستمرة ومعلومات مفصلة عنهم. كانت عملية وضع «النخب الرئاسية» تحت المجهر، حيث دخل هذا العامل في تصميم المجمعات أيضا.

وعامل آخر، خارج شكوك الرئيس برجاله، وهو أن تجميع الرعايا الطيبين في مكان واحد، يسهّل من عملية استدعائهم في حالات الطوارئ والطوارئ القصوى.

وبما أن الخطر على النظام، كما فهمه الرئيس من المستحيل قدومه من خلف المحيط، فهو في كل توقعاته سيكون داخليا، وطالما أمـّن إسكان رجاله بالقرب من القصر الجمهوري ودار الإذاعة والتلفزيون التي بنى لها مجمعا ضمن «جمهورية حيفا» أيضا، فيمكنه النوم بهدوء بلا انقلابات، هكذا فهم صدام كباقي جيله بأن لا انقلاب يحصل ضده طالما سيطر على القصر والإذاعة!.

هذا المجمع هو الذي شهد مهرجانات المربد الشعرية واستوعب آلاف الأدباء العرب، وهنا أقاموا مذابح مهرجان بابل للفنون، وكانت عبقرية التصميم تغلف المنطقة بحزام أمني منها وفيها، ولا تستدعي قوة كبيرة، فالمنطقة مغلقة، ويمكن إغلاقها، بسد جسور الجمهورية والشهداء وإغلاق المنفذ المؤدي الى ساحة العلاوي.

معالم شارع حيفا
يضم شارع حيفا على جانبيه عدد من المعالم البغدادية والدوائر الرسمية. فهو يضم: هيئة التقاعد الوطنية ، مستشفى الكرخ للولادة، مديرية الإذاعة والتلفزيون ، وزارة العدل ، وزارة البلديات ، وزارة الثقافة ، ديوان الرقابة المالية قبل انتقاله إلى مبنى محافظة بغداد الجديد في العلاوي، ثانوية الكرخ ، السفارة البريطانية (المبنى القديم) ، محطة السكك الحديد ، كراج العلاوي ، مرقد الشيخ جنيد ، مرقد الشيخ معروف، جامع براثا، مقام خضر الياس ، جامعة الكرخ للعلوم، ملعب نادي الزوراء، بدالة الكرخ ، بيوت تراثية تعود لثلاثينيات القرن الماضي.

جمهورية حيفا
حرص صدام على أن تشاهد كل الدنيا «جمهورية حيفا»، فقد اصطحب كل زواره الرؤساء وكان خلف المقود يتباهى أمامهم: كيف رأيتم بغداد؟ وكان يصدق بأن ما يرونه من افتعال هو بغداد الحقيقية. وبلغ ولعه بحيفا، أن وبخ، في غضون مشاهدته لفيلم عراقي اسمه «الصخب والبحر» للمخرج صبيح عبد الكريم والمؤلف علي الناصري، عدم وجود لقطات لشارع حيفا في الفيلم !!

هكذا، طلب منهم زرع لقطات، لكي يرى المشاهد ما وصلت إليه بغداد من رقي في عهده. وبعد أن رأى الحيرة على المخرج والمؤلف، لكون أحداث الفيلم كلها تجري في البحر، فكيف يدخلون شارع حيفا في البحر، ألف معهم الملحق الرئاسي سيناريو للفيلم بمزج فلاش باك للبطل خلال الأحداث الجارية في البحر ليتذكر نزهة له مع حبيبته، وطبعا في شارع حيفا، ولم يخرج فيلم البحر هذا بدون إدخال شارع حيفا به بعنوة رئاسية.

وفي «جمهورية حيفا» أحدث دور الحضانة والرعاية ورياض الأطفال وحتى المجمع التسويقي المبني هناك أطلقوا عليه «28 نيسان» وهو التاريخ الذي أدعى صدام بأن الأقدار جلبته فيه الى الدنيا.

هكذا عاش سكان حيفا في فضاء خارج زمان العراق، فالكهرباء لهم وحدهم ولا تنقطع، وماؤهم زلال، ليكتبوا وينشدوا ويرقصوا ويطبلوا ويرموا الآخرين بالغازات السامة والكيمياوي في اليوم الذي يلي سهرة مريحة من على شرفة باذخة تطل على الوطن الغارق بالقمامة والجوع.

سعى صدام لأن يسكن في حيفا كل «المعارضين» العرب لأنظمتهم، ذلك الطابور الخامس المكون من كل الأصناف والأجناس، ولأنه كان يعادي كل البلاد العربية، فقد كان الموزاييك الأثني لجمهورية حيفا يضم بلاد العرب كلها التي تحولت «حيفا» هذه المرة الى وطنهم الأول. وبما أن النظام عرف بمعاداته الرئيسية لسوريا ونظامها الذي عدّوها العدو الأول، فقد ترعرع السوريون المعارضون في «جمهورية حيفا» بكامل قيافتهم وبرعاية استثنائية من «الأب القائد».

زد عليهم المتطوعين العرب الذين ذاع صيتهم قبل الحرب الأخيرة الذين وجدوا لهم مسكنا مريحا في الجمهورية (تصوروا أن النظام أبقى على شقق وبيوت في مجمعات جمهورية حيفا شاغرة وفارغة لغاية اللحظة التي سقط فيها !!!).

شارع حيفا بعد سقوط النظام
في ٩ نيسان ٢٠٠٣ عند سقط النظام غادر أغلب سكان العمارات بسيارات القصر الجمهوري من نوع مرسيدس وغيرها متوجهين إلى المدن التي ينتمون إليها في أعالي الفرات ودجلة. وبقي منهم الجماعات الإرهابية التي استقدمها صدام قبل الحرب ولعبوا دوراً في ارتكاب الجرائم في هذه المنطقة.
من جانب آخر تعرض المجمع السكني والمجمعات التجارية والثقافية إلى عمليات نهب من قبل قطاع الطرق واللصوص. وكانت عربات الحمير والبيكبات المسروقة تحّمل ما تستطيع حمله وتحرق ما تبقى منه. هؤلاء الذين أطلق النظام سراحهم من السجون قبل أسابيع من بدء الحرب.
وأخذ بعض الناس يعرض الشقق المؤثثة السليمة بسعر لا يتجاوز الألف دولار للواحدة، طبعاً بلا ضمان أو ورقة تؤيد ذلك. وقام سكان الحواسم في حيفا بتنظيم أنفسهم ليتحولوا إلى مافيات وعصابات للجريمة. كما أصبح شارع حيفاً بؤرة لتجارة وتوزيع المخدرات والحصول على أموال ضخمة تستخدم في عمليات القتل والتفخيخ.

لم يكن الارهابيون العرب الذين استقدمهم النظام قبل سقوطه وأسكنهم في شارع حيفا، ليقعدوا منتظرين مصيرهم بل بادروا إلى شن هجمات منظمة وليصبحوا (قاعدة) أخرى غير التي نشطت في اللطيفية ومثلث الموت. وكان الانتحاريون والمجاهدون والبعثيون يقومون بتفخيخ السيارات وزرعها في الشوارع والساحات والأسواق والمساجد لتقتل أكبر عدد من المدنيين الأبرياء. وقد قامت القوات الأمنية بعملية سريعة على مبنى واحد فاعتقلت (٢٠) ارهابياً سورياً.
كما أصبح شارع حيفاً قاعدة لإطلاق قذائف الهاون والكاتيوشا من سطوح العمارات متوجهة صوب المنطقة الخضراء ومبانيها الحساسة وبقية مناطق العاصمة. وكانت القوات الأمريكية والعراقية تدخل في معارك ضد هذه الجماعات. فتقوم بقصف العمارات بطائرات الأباتشي وتغلق دباباتها وهمراتها ومدرعاتها الشوارع الفرعية يومياً لكن لم يتم تطهيرها كلياً. وكان القناصة في الشقق يترصدون المارة والسيارات في الشارع وقتلهم بشكل عشوائي لمجرد بث الرعب ومنع الحركة في الشارع.
آنذاك كنا نتجنب المرور بسياراتنا بشارع حيفا بل نسير في شوارع أخر. ولم يغلق ملف القتل في شارع حيفا إلا في عام ٢٠٠٧ مع بدء عملية فرض القانون.

فيلم (شارع حيفا) السينمائي
"شارع حيفا فيلم عراقي نادر ومختلف وشجاع، ومصنوع بطريقة ذكية، شعرتُ وأنا أشاهده أنني كنت داخل شارع حيفا في بغداد عام 2006، شعرتُ بالموت يُحيط بي من كل مكان، إنه أحد الأفلام المهمة التي أنصح بمشاهدتها". هذا ما عبّر عنه المخرج الإيراني الشهير محسن مخملباف ، الذي حاز جوائز عالمية.
شارع حيفا هو فيلم عراقي روائي من اخراج مهند حيال وسيناريو هلا السلمان ومهند حيال ، انتاج علي رحيم ,بطولة علي ثامر ويمنى مروان عرض الفيلم لأول مرة في بوسان بكوريا الجنوبية وحصل على جائزة أفضل فيلم. في مهرجان بوسان السينمائي الدولي  ومن بين 6 جوائز حصدها الفيلم هي جائزتي أفضل فيلم عربي وأفضل اداء تمثيلي من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته ال41 عام 2019.
تدور الاحداث في شارع حيفا أحد أخطر المواقع خلال الحرب الاهلية في بغداد 2006 . سلام، قناص يبلغ من العمر 23 سنة، يقتل احمد البالغ من العمر 45 سنة امام منزل سعاد التي جاء للزواج بها في ذلك اليوم . سلام يمنع اي شخص من الوصول إلى جثة احمد بما في ذلك أمه سعاد وأخته نادية. بينما تحاول سعاد استعادة جسد حبيبها تتفجر الصراعات بين سعاد وابنها سلام من جهة وهو مسلم متدين يرفض فكرة زواج والدته مرة اخرى ، ̠وبين سلام ونادية التي تمزق بين الطموحات الشخصية للتحرر من سلطة الذكور وتعاطفها مع امها من جهة اخرى . وفي المقابل يخوض سلام صراعا كبيرا بين اصراره على عدم التفريط بجسد احمد وبين افراد مجموعته الذين ينقلبون بالصد منه ويبقى السؤال لماذا يرفض طارق السماح لسعاد باستعادة جثة حبيبها.
منذ وقت مُبكر من أحداث الفيلم يظهر سلَّام هو ابن سعاد، وأنه اختفى في السجون العراقية لسبب لا نعلمه، فصوره المعلقة على جدران البيت وأخبار اختفائه هي كل ما نعرفه عن ماضيه، فالأم والأخت لا تنطقان بشيء. ولاحقاً نعرف على لسان زعيم القاعدة أو أميرها أنه تبنى سلَّام بعد خروجه من السجن وزوَّجه من أخته، والتي نراها في عدة مشاهد وهي تُدبر لمواصلة عملها بالدعارة، وبهذه السلطة المتفجرة عن طريق تجارتها الرابحة من الجنس، إضافة إلى سلطة أخيها؛ تُساوم حتى تنال ما تريده.
على صعيد آخر في الفيلم مجموعة من اللقطات المشهدية الكابوسية التي تم تصويرها كأنها حلم يكشف عن الهواجس الدفينة في أعماق سلَّام، بعضها نرى فيها الأم وهي تستعد لإطلاق الرصاص على ابنها بينما هو مستسلم لها، ومنها لقطة أخرى نراه يتأمل فيها ذاته طفلا، ثم نراه مستسلما لهذا الطفل الذي يصطحبه على سلالم البناية المهجورة ليرى نفسه من وراء بعض القضبان الحديدية على السلم، وهو يرقد على خشبة الغُسل استعدادا للدفن، وكل منهما ينظر للآخر، سلَّام الميت وسلَّام الحي وبينهما سلَّام الثالث طفلاً، وذلك في لقطة مزدوجة بالدلالة التعبيرية المؤلمة.

المصادر
-سيف الدين الآلوسي (قصة بناء شارع حيفا) في موقع (سنان) في ٣٠ حزيران ٢٠٢٠
-هشام المدفعي (نحو عراق جديد سبعون عاماً من البناء والاعمار) في (جريدة الصباح الجديد) في ٢٦ تشرين الثاني ٢٠١٧
-جمال حسين (جمهوريات حيفا صممها أمهر المعماريين لتضم شعب الرئيس المختار) في (جريدة القبس) في ١٣ أيلول ٢٠٠٤
-(شارع حيفا من حي الشواكة إلى مسرح لتصفيات البعثيين العرب) في (جريدة الشرق الأوسط) في ١٠ كانون الثاني ٢٠٠٧
-سعد هزاع عمر (مشاريع كرخية لم تكتمل) في موقع (كاردينيا) في ١٦ شباط ٢٠١٤
-نبيل جاسم (شارع حيفا أسطورة المقاتلين العرب) في (موقع إيلاف) في ٢ تشرين الثاني ٢٠٠٤
-فقار الكرخي في (موقع درر العراق) في ١٤ مايس ٢٠٢١
-(شارع حيفا يحصد جائزة أفضل فيلم في مهرجان بوسان الدولي) في (موقع ألترا عراق) في ١٢ تشرين الأول ٢٠١٩
-أمل الجمل (شارع حيفا ، أهوال الحرب الطائفية في بغداد كأنك تراها) في (موقع الجزيرة الوثائقية) في ٢٦ تشرين الأول ٢٠١٩