×

أخر الأخبار

العمارة الأجنبية في العراق بغداد الجديدة حي عصري على غرار مصر الجديدة

  • 25-02-2022, 14:13
  • 905 مشاهدة
  • د. صلاح عبد الرزاق

د. صلاح عبد الرزاق

نشر في ٢٥ شباط ٢٠٢٢
خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين بدأت معالم الازدهار تتبلور تدريجياً في الدولة العراقية الوليدة. وساهم الاستقرار السياسي وتوجه الحكومات نحو البناء والعمران ، واتساع طبقة الموظفين الذين يحصلون على رواتب ثابتة ومستقرة ، والانفتاح الاقتصادي والتجاري على الخارج ، وازدهار الزراعة ونهضة حديثة للصناعات الأهلية على يد البروجوازية الوطنية في توفير السلع والمنتجات إضافة إلى توفير فرص عمل جديدة للعمال. كل ذلك زاد من نسبة الثراء ، وازدادت الطبقة المتوسطة والغنية في المجتمع العراقي، مع استمرار وجود طبقات فقيرة تبحث عن لقمة العيش.

منذ العشرينيات قام المهندس البريطاني جيمس موليسون ويلسون (١٨٨٧ – ١٩٦٥) بإعداد تصميم جديد لبغداد حيث استحدث أحياداً سكنية جديدة مثل العلوية والسعدون والهنيدي. وسرعان ما نشطت الحركة العمرانية والبناء في الكرخ والرصافة والكاظمية والأعظمية. في عام ١٩٣٠ تم إنشاء محلة السعدون ، وتوسعت الأعظمية القديمة (الشيوخ ، النصّة ، الحرة ، والسفينة ) نحو هيبت خاتون. وفي عام ١٩٣١ أنشأت محلة راغبة خاتون وتوسعت محلة الشيوخ. وفي عام ١٩٣٣ توسعت الكرادة الشرقية وتم إنشاء العديد من القصور فيها. كما افتتحت فيها شوارع جديدة وعريضة . وتحولت من قرية صغيرة تحيط بمرقد السيد ادريس ومساكن الفلاحين المبنية بالطين إلى حي سكني راقي يسكنه الأثرياء على امتداد نهر دجلة.

في عام ١٩٣٦ استدعت الحكومة العراقية البروفسور الألماني المشهور بتخطيط المدن جوزيف بريكس (١٨٥٩- ١٩٤٣) ومعاونه برونو وينفر حيث أوكلت إليه أمانة العاصمة مهمة إعداد تصميم حديث لمدينة بغداد. وبعد دراسة ميدانية لأحياء مدينة بغداد وتضاريس المناطق المحيطة بها قدم بريكس دراسته التي تضمنت توصيات منها فتح شوارع جديدة مثل شارع الملك غازي ، إضافة إلى شارع عريض آخر مواز له لتسهيل حركة النقل في بغداد. وقد قدم تقريره عن طريق السفارة الألمانية في بغداد حيث تناول إنشاء المطارات والسكك الحديد والمحلات السكنية ومشاريع الماء والكهرباء والكراجات والشوارع. وكان يرى أن بغداد آنذاك لن تتسع سوى لنصف مليون نسمة إذا ما بقيت في حدودها القديمة.  وكان تصميماً هاماً لكن لم ينفذ بصورة تامة. ومع ذلك أصبحت أفكار ومقترحات بريكس أساساً لتصميم حديث يأخذ بنظر الاعتبار الزيادة السكانية حتى مليوني نسمة.

في ظل تلك الأجواء بدأ أثرياء بغداد بالخروج من الحالة النمطية للبيت البغدادي المتضمن وجود عدد من الغرب تحيط بفناء داخلي يسمى (الحوش) يوفر أجواء عائلية حميمة ومعزولة عن الخارج حيث الشبابيك والأبواب تفتح على الحوش وليس على الخارج، عدا باب الدار وبعض شبابيك غرفة الضيوف. وبدأت تنتشر البيوت الحديثة التي تنفتح شبابيكها على الخارج ، ووجود حديقة أمامية ، وأحياناً خلفية تقضي فيها الأسرة أوقاتاً جميلة. وأخذ مهندسون معماريون عراقيون وأجانب قادمون من هنغاريا مثل بدري قدح وعلي رأفت بطرح تصاميم عصرية حديثة مستوحاة من كتالوكات إيطالية وفرنسية وإنكليزية.

وبدأ استخدام مواد انشائية جديدة كالخرسانة وحديد الشيلمان حيث تم إنشاء أول معمل للسمنت في العراق عام ١٩٣٦ ، واستخدم بدل الجص الذي كان يستخدم منذ العصور القديمة.

ومن النماذج المصممة والمشيدة من قبل أسطوات عراقيين على يد المهندس السوري بدري قدح الذي صمم كلية الملك فيصل الثاني (ثانوية الأعظمية) عام ١٩٣٥ ، وداراً سكنية في محلة السفينة. وقام المهندس الإنكليزي جون براين كوبر بتصميم دار نوري السعيد عام ١٩٣٦. ومن الأبنية التي شيدها معماريون عراقيون دار إسماعيل الشوربجي ، ودار شوكت الزهاوي، ودار توفيق الدملوجي ، ودار صائب شوكت ، ودار سركيس باكوس في شارع أبي نؤاس، ودار حافظ جميل في بارك السعدون ودار توفيق السويدي في الشواكة.  

وبرز في تلك الفترة بعض المهندسين العراقيين مثل نيازي داود فتو وشريف يوسف. كما عاد إلى العراق عدد من المهندسين المعماريين العراقيين بعد إكمال دراستهم في أوربا وأميركا أمثال أرشد العمري ونعمان منيب المتولي وليفون هوفسب بوغوصيان وأحمد مختار وسامي قيردار وحازم نامق وجعفر علاوي ومدحت علي مظلوم وأخرون.

وبدأت نهضة معمارية حديثة تظهر في الأبنية العامة كالفنادق والأسواق والدوائر مثل سوق الأمانة المشيد عام ١٩٢٩ وسينما الزوراء عام ١٩٣٧ وفندق تايكرس بالاس عام ١٩٤٠ والنادي الأولمبي في ساحة عنتر عام ١٩٣٩ وسينما الفردوس في شارع الكفاح عام ١٩٤١ والمدرسة الجعفرية في منطقة سيد سلطان علي ، أو الخاصة في الدور السكنية مثل دار موسى الشابندر في بارك السعدون ودار فاطمة الداغستاني في شارع طه ، ودار عبد الرزاق مرجان في الحلة.

كما بدأت البيوت ذات المساحات بين ٢٠٠ إلى ٣٠٠ متر مربع تصطف إلى بعضها البعض في محلات جديدة كالبتاوين والعلوية وبارك السعدون.

تأسيس شركة بغداد الجديدة
كانت أمانة بغداد الجهة المعنية بتطوير وتخطيط وإعمار أحياء بغداد. وبسبب نمو عدد سكان العاصمة أصبحت الحاج ماسة لإنشاء أحياء جديدة والبحث عن أراض مناسبة لإنشاء أحياء سكنية تضم مئات الدور الحديثة. وكان البحث جارياً عن أراض واسعة بعيدة عن المركز وتفصلها عن المركز غابات تكون مساحة خضراء. تم اختيار المنطقة الواقعة قرب تل محمد على جانبي الطريق المؤدي إلى بعقوبة في جانب الرصافة.  
وكان عدد من أصحاب رؤوس الأموال العراقيين يزورون القاهرة باستمرار، وقد أبدوا إعجابهم بمدينة مصر الجديدة التي تبعد قليلاً عن القاهرة، وأرادوا تشييد مدينة في بغداد على غرار مصر الجديدة. في عام ١٩٤٥ اتفق أولئك العراقيين مع مجموعة من المصريين على تأسيس شركة إنشائية عراقية تسمى (شركة بغداد الجديدة) بهدف إنشاء مدينة عصرية ذات شوارع رئيسة واسعة وشوارع فرعية مع وجود مساحات خضراء وملاعب وأسواق تشبه مدينة مصر الجديدة التي أنشئت في بداية القرن العشرين.

بدأ تأسيس الشركة برأسمال قدره مليون دينار عراقي، وبهدف إشراك أبناء الشعب بالمشروع ، تم طرح أسهم الشركة في سوق بغداد للأوراق المالية الكائنة في شارع الرشيد بمحلة العبخانة ، وكانت قد أنشئت عام ١٩٣٥ باسم بورصة التجارة ببغداد. وهي من أقدم بورصات الشرق الأوسط. وقد تأسست من قبل وزارة المالية في عهد ساسون حسقيل حيث تم تشريع قانون بورصة التجارة رقم (٦٥) في ٩ مايس ١٩٣٦.
شهد شراء الأسهم إقبالاً كبيراً ، حتى بيع السهم الواحد بخمسة دنانير، وانتهى البيع بسرعة كبيرة. لقد لقي المشروع رواجاً حيث بات المواطنون يتشجعون على ضرورة المساهمة في الإعمار والربح من مشاريع تخدم البلد.
بعد حصولها على أموال الاكتتاب وبيع الأسهم باشرت شركة بغداد الجديدة بشراء آلاف الدونمات في منطقة تل محمد. وحفاظاً على المنطقة الأثرية فيها فقد تم نصب السياج حولها.
 وكانت المنطقة تعاني من تهديد مياه الفيضان جراء كسر سدة الداوودية شمال الصليخ ومن نهر ديالى. لذلك باشرت الشركة بتقوية السدة بإرسال مئات الشاحنات تحمل التراب إلى السدة وجعلها محكمة أمام أي فيضان محتمل.

تصميم بغداد الجديدة
شارك مهندسون أجانب في تخطيط بغداد الجديدة. إذ تضمن التصميم الأساس على استحداث أربعة شوارع متوازية طول كل منها ثلاثة كيلومترات قابلة للتوسع ، وبعرض (٥٠) متراً، وتتقاطع هذه الشوارع بزوايا قائمة مع أربع شوارع أخرى متوازية وبنفس الطول والعرض. وبذلك تتألف من المدينة الجديدة من شبكة شوارع رئيسة متقاطعة وتشكل مربعات سكنية وشوارع تجارية وأبنية خدمية. وداخل كل مربع تتفرع شوارع فرعية تقع البيوت السكنية على جانبيها. تم بيع الأراضي للمواطنين ليشيدوا منازلهم حسب رغباتهم في الحجم والتصميم. فظهرت القصور الفخمة والفيلات الأنيقة ذات الواجهات الفنية الحديثة وأمامها حدائق مزينة بالأشجار والنباتات.

وقد تم إنشاء مشتل خاص لبيع الأشجار والنباتات والورود حيث يشتريها سكان الحي الجديد وزرعها في حدائق منازلهم. وكان المشتل يستورد نباتات بريطانيا ويتفاخر أصحاب الدور بها وأنها نادرة وغريبة في البيئة العراقية. لقد صار المشتل غابة كبيرة ذات أشجار ونباتات متنوعة ومتشابكة يختار الزائر منها ما يريد ليزرعها في فناء أو حديقة منزله. وبذلك بات العراقي يسكن في منزل فخم ولديه حديقة فتحقق حلم من سكنها.

قامت الشركة ببناء جسرين في مدخل المدينة، وعبدت الشارع الرئيس بجانبيه، والذي يتصل بالطريق المؤدي إلى مدينة بعقوبة. كما قامت بتعبيد جميع الشوارع الرئيسة والفرعية. كما بادرت بزرع الأشجار والنباتات والزهور في الشوارع والساحات، إضافة إلى كازينو جميلة (كازينو ليالي الأنس) تحيط بها الحدائق الجميلة. كما وفرت الشركة خدمات الماء والكهرباء وعمال النظافة.

لقد أصبحت بغداد الجديدة مدينة عصرية تجذب الكثير من سكان بغداد القديمة حتى وصفها المؤرخ عبد الرزاق الحسني بأنها صورة مصغرة للأحياء الحديثة في بيروت والقاهرة من حيث تخطيطها وشوارعها وأسواقها.

في عام ١٩٥٠ تم تشييد ساحة لسباق الخيل في الجزء الشمالي على مقربة من الحديقة الكبيرة (المشتل) إلى يسار الطريق المؤدي إلى بعقوبة.
وحتى السبعينيات كانت بغداد الجديدة منطقة صغيرة تبدأ من مدخل النعيرية الحالية وحتى معمل السباكة. وقبلها كانت مزارع للخس حتى سميت بالنعيرية المأخوذة من مفردة (النعر) وهو صوت الماء ، ومنها جاءت كلمة ناعور. ومعنى النعر في القاموس هو الصياح من الأنف .

بدأت بغداد الجديدة تتسع في زمن عبد الكريم قاسم حيث قام بإنشاء منطقة (الألف دار) التي تم توزيع أراضيها على العسكريين من نواب الضباط  والمراتب الأخرى.

سرعان ما اتسعت ونمت مدينة بغداد الجديدة حتى بلغ عدد سكانها أكثر من نصف مليون نسمة وهي حسب التصنيف الإداري حالياً (ناحية بغداد الجديدة) التابعة لقضاء الرصافة التابع لمحافظة بغداد.

سكن بغداد الجديدة كل المكونات الدينية والمذهبية والطوائف العراقية مثل الشيعة والسنة ، إضافة إلي عدد كبير من المسيحيين. وقد زارها الملك فيصل الثاني بصحبة الأمير عبد الاله.

تقع بغداد الجديدة بين قناة الجيش وطريق محمد القاسم . وكان يحيط بالمنطقة مبزل كبير لصرف المياه الثقيلة من بغداد إلى نهر ديالى ويدعى (شطيّط) يبدأ من مدينة الثورة (الصدر) مخترقاً منطقة ملعب الشعب ماراً بمزارع حي المثنى التي أصبحت (زيونة). وقد تم ردم المبزل وأنشئ مكانه الطريق السريع المعروف باسم (محمد القاسم).

من معالم بغداد الجديدة وجود عدد من التلول الأثرية مثل (تل محمد) الذي يقع حالياً في (حي سومر). وهنا: (تل حرمل) الذي يعود للعهود البابلية.

ومن معالم المدينة جامع السامرائي الذي بناه الوجيه جاسم السامرائي الذي كان يملك معظم أراضي بغداد الجديدة، وكان لديه شركة لتصدير النفط العراقي تم تأميمها عام ١٩٧٢. وكان يمتلك أراضي زراعية في قضاء بلد تمت مصادرتها بموجب قانون الإصلاح الزراعي بعد ١٩٥٨.  

ومن المعالم سينما البيضاء التي بنيت في الخمسينيات ، وسوق الكبيسي الذي كان مخططاً له أن يكون مركزاً تسويقياً على غرار (محلات عمر أفندي) في مصر. وهناك عمارة مار ديروس أكوب وهو عراقي أرمني أنشآ عام ١٩٦٠ وهي عمارة جميلة في تصميمها المعماري و مساحة الشقة فيها. وكانت من المقرر أن تكون العمارة بنكاً تجارياً لكن تم تحويلها إلى مبنى سكني. وهناك بناية على شكل مثلث يقال أنها كانت دار استراحة للملك وتسمى بالسفينة لكن تغيرت معالمها حالياً.


المصادر
-موسوعة ويكيبيديا ، مادة بغداد الجديدة
-موسوعة العمارة العراقية ج ٢ – محمد رضا الجلبي
-كيف تأسست بغداد الجديدة؟ عباس فرحان الموسوي ، ملاحق المدى في ٢٤ أيلول ٢٠١٧
-موقع معرفة ، مادة بغداد الجديدة
-موقع السوق المفتوح ، بغداد الجديدة
-موقع الفارسية ، قصة إنشاء بغداد الجديدة في ٢٧ كانون الثاني ٢٠١١