×

أخر الأخبار

المس بيل .. سيدة إنكليزية أسست العراق وماتت فيه

  • 9-07-2019, 13:47
  • 1418 مشاهدة
  • صلاح عبد الرزاق

صلاح عبد الرزاق

لم تحظ سيدة انكليزية من قبل بمثل ما حظيت به المس بيل في تأثيرها في الادارة البريطانية في العراق ، كما في علاقاتها ونفوذها في الزعامات السياسية العراقية من وجهاء وشيوخ قبائل ورجال دين وغيرهم. فكانت الخاتون التي يتردد عليها الساسة العراقيون ليطلبوا مشورتها أو وساطتها في منصب أو مسألة أخرى. ولم يترددوا في تمجيدها بعبارات الاطراء والثناء أو الجلوس معها أو الوقوف خلفها عند التقاط الصور التذكارية. وكانت علاقتها مع الملك فيصل الأول ورجال حكومته هي الأقوى وتأثيراً على قراراتهم وإدارة الأحداث والأزمات السياسية والأمنية والعسكرية.

من الريف الانكليزي إلى الصحراء

لم تكن الفتاة الانكليزية غيرترود المنتمية لعائلة ارستقراطية يخطر ببالها يوماً أن ستغادر الريف الانكليزي الجميل لتقضي حياتها في الصحراء ومدن الشرق الأوسط ، ولتصبح من أشهر الشخصيات السياسية التي ادت دوراً مؤثراً في ترسيم حدود الدول العربية الخارجة من الهيمنة العثمانية.

ولدت غيرترود Gertrude Bell في 14 تموز 1868 في مقاطعة واشنطن في دورهام بانكلترا. كان جدها سيد الفولاذ السير اسحاق لوثيان بيل Sir Isaac Lowthian Bell رجل أعمال وعضو ليبرالي في البرلمان البريطاني. وكان دوره في السياسة البريطانية قد جذب اهتمام غيرترود للسياسة منذ بواكير شبابها وخاصة في الشؤون الدولية، مما شجعها على التطلع نحو العالم.

وأما والدة غيرترود فهي ماري شيلد بيل Mary Shield Bell  توفيت عام 1871 اثر ولادتها لابنها ماوريس الذي أصبح البارون الثالث فيما بعد. وعندما توفيت والدتها كان عمر غيرترود ثلاث سنوات فقط. الأمر الذي جعلها تتعلق بوالدها السير هوغ بيل Sir Hugh Bell البارون الثاني، الرأسمالي صاحب المطاحن والذي شغل عدة مناصب حكومية .

أنهت غيرترود تعليمها الأولي في كلية الملكة في لندن، ثم التحقت بجامعة أكسفورد وعمرها 17 عاماً. وكانت مادة التاريخ هي إحدى المواد المسموح للنساء بدراستها آنذاك. الأمر الذي جعلها تتخصص بدراسة التاريخ الحديث. وتعد أول امرأة تتخرج من قسم التاريخ في جامعة أكسفورد بدرجة الامتياز الأول، وخلال عامين فقط.

لم تتزوج غيرترود ولم تنجب أطفالاً، لكنها كانت على علاقة صداقة مع مدير مستعمرات بريطاني هو السير فرانك سويتنهام Sir Frank Swettenham تعرفت عليه في زيارة لها لسنغافورة مع أخيها هوغو Hugo عام 1903. وبقيت علاقتها معه حتى عام 1909.

اكتشافها للشرق الأوسط

كان خال غيرترود السير فرانك ليسيلز Sir Frank Lascelles يعمل وزيراً مفوضاً في السفارة البريطانية في طهران. بعد تخرجها في أكسفورد زارت خالها في طهران عام 1892 ثم وصفت رحلتها في كتابها صور فارسية Persian Pictures الصادر عام 1894.ثم أخذت تهتم بالآثار وتعلم اللغات فأجادت العربية والفارسية والفرنسية والألمانية إضافة ألى التحدث بالايطالية والتركية.

في عام 1899 بدأت بيل رحلتها الى الشرق الأوسط فزارت فلسطين وسوريا حتى عام 1900. وهناك تعرفت على طائفة الدروز التي تسكن في جبل الدروز. كما اجتازت الجزيرة العربية ستة مرات خلال الاثنا عشر عاما القادمة. ونشرت ملاحظاتها عن الشرق الأوسط في كتابها( سوريا: الصحراء والنثر Syria: The Desert and the Sown)عام 1907. في ذلك الكتاب وصفت وصورت المدن الكبرى كدمشق وبيروت والقدس. في عام 1907 رافقت المنقب الآثاري السير وليم رامسي في جولة في أراضي الدولة العثمانية.

في كانون الثاني عام 1909 دخلت أرض الرافدين حيث وصفت مدينة بابل والنجف الأشرف وقصر الأخيضر. ومرت بالكاظمية ثم بغداد حيث التقت بالسير برسي كوكس لأول مرة في دار القنصل البريطاني في بغداد المستر ريجموند.

 وفي عام 1913 أنجزت أكبر وآخر رحلتها العربية حيث قطعت 1800 ميل ومرت بدمشق وبغداد. وبدأت تنجذب للعمل السياسي تدريجياً خاصة بعد زيارة مدينة حائل ولقائها بلورنس العرب وجون فيلبي.

الحرب الأولى والمهمة السياسية

مع نشوب الحرب العالمية الأولى تم استدعاء المس بيل من المخابرات البريطانية لتعبئة الجنود في الصحراء. ومنذ ذلك التاريخ وحتى وفاتها كانت السيدة الوحيدة التي كان لديها القوة السياسية والتأثير في صناعة القرار البريطاني في سياسيتها الاستعمارية في الشرق الأوسط.

وخلال رحلاتها العديدة كونت صداقات قوية مع السكان المحليين وشيوخ القائل. ولكونها امرأة فقد تمكنت من دخول بيوت الشيوخ والزعماء ولقاء النساء ورسم صورة عن الجانب السري من عائلاتهم .

في تشرين الثاني 1915 التحقت بالمكتب العربي بالقاهرة الذي كان يترأسه الجنرال غلبرت كلايتون ، وهناك التقت مرة أخرى بلورنس العرب (توماس لورنس). وكلاهما تخرجا في أكسفورد وحصلا على مرتبة الشرف في التاريخ الحديث. وكلاهما يتحدث العربية ، وقاما برحلات في الصحراء العربية ،ولديهما صلات قوية مع القبائل.

في 3 آذار 1916 قام الجنرال كلايتون بارسال المسز بيل إلى البصرة التي تم احتلالها من قبل القوات البريطانية في تشرين الثاني 1914. كانت مهمتها تقديم المشورة للقائد برسي كوكس Percy Cox لأنها على اطلاع بالمنطقة أفضل من أي مستشار سياسي في ويسمنستر. وجدت لها مكتباً في مقر القيادة العسكرية رغم أنها كانت تعمل ليومين بالأسبوع بصفة خبيرة مدنية.

قامت المس بيل برسم خرائط لمساعدة القوات البريطانية في الوصول إلى بغداد بأمان. لقد أصبحت السيدة الوحيدة بصفة موظف سياسي في القوات البريطانية . وكانت تشرف على منطقة عمل جون فيلبي ، وعلّمته الفنون الدقيقة وراء المناورات السياسية.

بعد احتلال بغداد في 11 آذار 1917 انتقلت المس بيل إلى بغداد ، وسكنت في محلة السنك في منزل استأجرته من من السيد موسى الباججي (مدير بلدية الكرادة). في نفس العام أصدرت الادارة البريطانية صحيفة (جريدة العرب) وأناطت بها رئاستها.

تكوين العراق

في 11 تشرين الأول 1920 عاد بيرسي كوكس إلى بغداد باعتباره الحاكم السياسي للعراق، وطلب من المس بيل الاستمرار بعملها كسكرتيرة شرقية Oriental Secretary وعضو ارتباط مع الحكومة العراقية القادمة. كانت المس بيل تلعب دوراً كوسيط بين الحكومة العراقية القادمة والضباط والموظفين البريطانيين. كما كانت غالباً وسيطاً بين مختلف المكونات العراقية من ضمنها الأغلبية الشيعية في الجنوب ، السنة في وسط وغرب العراق، والكرد في الشمال الذين كانوا يطمحون بالحكم الذاتي عن بغداد.

كان من الضروري جداً للمصالح الامبريالية البريطانية المحافظة على التوازن السياسي وعلى تماسك المكونات العراقية بعضها مع البعض الآخر. فالعراق ليس غنياً بالنفط فحسب ، بل منطقة الصد أمام تركيا وإيران وسوريا. لقد كان تشرشل قلقاً جداً من تحميل الخزانة البريطانية كلفة حماية المستعمرات، ومن ضمنها نفقات محاربة القبائل الثائرة. وكان من الهام للبريطانيين والحكام العراقيين معاً هو خلق هوية جديدة لهؤلاء السكان يكونون بها كأمة واحدة. كان البريطانيون يدركون أن العراق سيكون أقل كلفة لو يحكمون أنفسهم بأنفسهم.

في عام 1921 عقد مؤتمر القاهرة لتحديد التشكيلات السياسية والجغرافية لما سمي فيما بعد بالعراق ، وبقية دول الشرق الأوسط. وكان للمسز بيل مناقشات أساسية في اتخاذ القرارات في المؤتمر. في مؤتمر القاهرة اتفقت المسز بيل ولورنس العرب على ترشيح فيصل بن الحسين شريف مكة ، زعيم الثورة العربية والقائد السابق للقوات العربية التي دعمت البريطانيين في الحرب ، وساعدتهم على دخول دمشق، ليكون فيصل ملكاً على العراق بعد أن خلعته فرنسا من عرش سوريا. قرر المؤتمر تنصيب فيصل كأول ملك على العراق لما يملكه من نسب هاشمي  ومهارات دبلوماسية تجعله مهاباً ومحترماً وقادراً على توحيد المكونات العراقية المتنوعة.

انجازات ثقافية

بقيت المس بيل تحظى بثقة عالية من قبل الملك فيصل وينفذ طلباتها مثل تأسيس متحف الآثار العراقية. إذ بقي العراق يحظى باهتمام البعثات البريطانية للتنقيب عن الآثار والحضارات القديمة.

أصبحت المس بيل جزءاً هاماً في الدولة العراقية أو المملكة الوليدة. وتم تصميم علم جديد للملكة الهاشمية يتكون من ثلاثة أشرطة. إذ تألف من اللون الأسود وهو رمز العباسيين، واللون الأبيض وهو رمز الأمويين ، واللون الأخضر وهو لون العلويين، ثم مثلث أحمر وأضافت المس بيل نجمة ذهبية لتمثل اتحاد العراقيين (المصدر: موسوعة ويكيبيديا). في 23 آب 1921 تم تتويج الملك فيصل في القشلة بحضور سياسي ودبلوماسي وعسكري وديني.

في تشرين الثاني عام 1919  دعيت المس بيل كمتحدثة في اجتماع لتأسيس المكتبة الوطنية في العراق، وبقيت رئيسة لها للفترة 1921-1924.

وفي عام 1926 تكللت جهود المس بيل في جمع وترميم الآثار العراقية المكتشفة بافتتاح المتحف العراقي. كانت تهتم بالمحافظة على الثقافة العراقية. وقد سبق الافتتاح وفاتها بقليل ، ثم تم تسمية  الجناح الأيمن من المتحف باسمها ، ووضع تمثال نصفي لها.

لعل أهم آثارها السياسية والادارية هو تقريرها (مراجعة للادارة المدنية في بلاد ما بين النهرين Review of the Civil Administration of Mesopotamia) الصادر في لندن عام 1920.

استعرضت المس بيل خبراتها الواسعة بشؤون العراق وسكانه وقومياته ومذاهبه ورجالاته، إضافة إلى الاحصائيات وتحليلاتها الاجتماعية والتاريخية وغيرها من المعلومات التي لا غنى لسلطة مستعمرة عنها حتى أنه سمي بالكتاب الأبيض في الصحافة البريطانية والأوساط السياسية والبرلمانية الانكليزية. تألف الكتاب من اثني عشر فصلاً هي:

1-احتلال البصرة وموقعة الشعيبة،

2-تنظيم الادارة والكمارك والأوقاف والتعليم والصحة والعشائر والشرطة والطابو والصحافة والحصار والعمل،

3- تهدئة القبائل وعلاقتنا بالشيعة ونظرة في أحوال القبائل العربية في العمارة والناصرية وعلماء الشيعة والمدن المقدسة،

4 -علاقاتنا بالقبائل العربية الشيعية والسنية والكردية ولإعادة بناء الكوت وديالى وحوادث كربلاء وثورة النجف،

-5احتلال الموصل وإدارتها واليزيديون والمسيحيون وشمر جربا والشؤون الزراعـــية والضرائب والأمن والبلدية والمواصلات،

6-القضية الكردية ومذابح الأرمن والسليمانية والشيخ محمود وكرستان الشمالية والجنوبية وزعماء الأكراد وبارزان والزيباريون،

7-تطوير الادارة وشؤون الواردات وتعيين الحاكم الملكي العام والتقسيمات الادارية والري والزراعة وتسجيل الأملاك العقارية وضرائب الأرض والتمور والدخل والمزروعات واستملاك الأراضي ونزع الملكية،

8-الإدارة القضائية والمحاكم ومدرسة الحقوق وإدارة الأوقاف،

9-تنظيم دائرة المعارف والشرطة والخدمة الطبية المدنية ودائرة التجارة والصناعة والأشغال العامة والسكك الحديدية والمالية والآثار والتأسيسات،

10-الحركة الوطنية وبداية الشعور الوطني والاستفتاء العام واستخدام الوطنيين والبلديات وحزب العهد وسقوط تلعفر والحركة الوطنية في بغداد وتقرير المصير والثورة العراقية (1920)  11-الحكم الذاتي في الـــــعراق ، 12- آراء نقيب بغداد السياسية.    يلاحظ أن المسز بيل في كتابها (رسئل المسز بيل) تجاوزت أحياناً الموضوعية في تناولها لبعض الأحداث والشخصيات.

إذ كانت تؤكد الاختلاف بين السنة والشيعة ، والاختلاف بين أبناء العشائر والمدن، وتخويف الفريقين من أحدهما الآخر. كما أنها لم تتوان في مهاجمة زعماء الحركة الوطنية والعلماء الشيعة وزعماء القبائل المشاركين في ثورة العشرين أو الذين يبدون معارضة لمخططات بريطانيا في العراق. ويلاحظ أيضاً تغير مواقفها وتقييمها للشخصيات العراقية ، فتارة تمدحهم ، وتارة تشتمهم. وشمل ذلك أغلب الطبقة السياسية والوجهاء ورؤساء الصحف والمحامين ، وحتى الملك فيصل وابنه غازي وأولاد عبد الرحمن النقيب وغيرهم من الموالين للانكليز. ولم تنج طائفة من انتقاداتها فشملت السنة والشيعة والمسيحيين والكرد ، بل وحتى الحاكم الملكي العام السير آرنولد ويلسون.

  وفاتها

في 12 تموز 1926 وجدت المسز بيل ميتة عن عمر ناهز 58 عاماً بسبب تناولها جرعة كبيرة من الحبوب المسكنة. وهناك شكوك بشأن وفاتها سواء ماتت بالجرعة أم منتحرة. تم دفن المس بيل في المقبرة المسيحية في الباب الشرقي. شارك في تشييع جثمانها عدد غفير من الناس والأصدقاء والضباط والموظفين البريطانيين والدبلوماسيين . وكان الملك فيصل يراقب من شرفة منزله مراسم التشييع حيث حمل نعشها نحو المقبرة.

 قبر المس بيل في بغداد

في يوم في منتصف حزيران 2019 قمت بزيارة المقبرة المسيحية حيث دفنت المس بيل. تقع المقبرة خلف وزارة الصناعة بالقرب من ساحة الطيران.

استقبلنا حارس المقبرة السيد أبو علي مرتدياً يشماغه الجنوبي ، وتوضح لحيته البيضاء ملامح السنين التي قضاها في حراسة المقبرة التي ترعاها السفارة البريطانية في بغداد ، وتمنحه راتباً شهرياً ضئيلاً هو مئتي دولار فقط.

أخذنا إلى قبر المس بيل الذي تآكلت جدرانه يفعل عوامل التعرية والاندثار حيث لم يجر ترميمه كما يبدو منذ دفنها قبل 93 عاماً. ويبدو أن عائلة الدكتور أحمد الجلبي عام2005  قد قامت باكساء ما حول القبر بالبلاط ، وزرعت نباتات تحيط به. ووجدت ما يؤكد ذلك في لوحة معدنية صغيرة مثبتة في الأرض.

يصل طول القبر إلى مترين وارتفاعه حوالي 60 سم وعرضه 70 سم. وتستقر فوقه صخرة من الحجر لم تتأثر بعوامل المناخ. وكتب في الجهة الشمالية من القبر اسمها الكامل بالانكليزية Gertrude Margaret Lowthian Bell) غيرترود مارغريت لوثيان بيل)

وتحته عبارة بالانكليزية

Oriental Secretary to the High Commissioner for Iraq

(السكرتيرة الشرقية للمفوض السامي في العراق)

وفي الجهة الجنوبية من القبر كتب:

Born At Washington

 county 14 July 1868

(ولدت في مقاطعة واشنطن في 14 تموز 1868)

Died in Baghdad at 12 July

1926

(توفيت في بغداد في 12 تموز 1926)

وعلى الجهة الغربية (من جهة الرأس) توجد كتابة عربية قد سقط الجزء الأكبر منها .

ولم تبق سوى كلمة (هنا) في بداية السطر ، وكلمة (بيل) في نهاية السطر. ومن الأرجح أن تكون (هنا ترقد المس غيرترود بيل).

هكذا انتهت حياة سيدة غربية في قبر ببغداد ، بعد أن عاشت حياة مفعمة بالنشاط والحيوية والمغامرات والرحلات والاحتكاك بشعوب المنطقة، ثم لترسم حدود العراق وتبني معالم الدولة العراقية الحديثة بعد قرون من الاحتلال العثماني والاهمال التاريخي والاداري والتخلف السياسي والاجتماعي.

وطوال عشر سنوات (1916-1926) قضتها في العــــــــراق كانت الشخصية الأولى فيه ، وتركــــــت فيه بصمتها في نظامه السياسي وحدوده الدولية.