يصنف الرجال في علم الاجتماع إلى تصنيفات عدة ، منها : تصنيفهم إلى رجل ذات ، ورجل مرحلة ، ورجل زمن ، ويراد من الصنف الأول : أن الرجل منهم يولد ليعيش لذاته ، وقطار عمره عباره عن رحلة تمتد من المهد إلى اللحد ، ليطوى تأريخه ووجوده ليطمر في حفرة يواريها الثرى ، من ثم يتناساه الأهل والمحبون ليصبح بعد حين نسيا منسيا ، اما الصنف الثاني من الرجال وهو رجل المرحلة، فهو رجل ولد ليعيش ذاته ابتداء ولكنه لا يسجنها في الأطر وأسوار الذات الضيقة ، بل يفك قيوده ليتحرر ويتغلب على قيوده الذاتية ، ويجاهد ميوله ورغباته وطموحاته التي تريد منه ان يبقى مكبلا وأسيرا للأرض ولوازمها ، لتعيش ذاته من أجل غيره ، ليكون بطل خط ، ورجل مرحلة ، تاركا وراءه إرثا وتراثا وجهادا مليئا بالبطولة والتضحية والعلم والجهاد والعطاء ، ليترك الدنيا وقد ترك بصماته على المرحلة التي عاشها ، لتطبع المرحلة باسمه ، ونستطيع أن نسميه بحق بأنه رجل مرحلة ، ورجال المرحلة قليلون عبر التاريخ ، فمنهم مراجع علم وجهاد وتضحية وتقوى ، ومنهم قادة يشهد لهم التأريخ بخبرتهم وحنكتهم وسياستهم ، ومنهم المفكرون ورجالات العلم على اختلاف صنوفهم ، فرجال المرحلة لم يعيشوا لذاتهم بل لمرحلتهم ، وأما الصنف الثالث الذي نسميه برجل الزمن ، فهو رجل اختزل الذات والمرحلة ليعيش مع الزمن في بعده ، ومع الجغرافيا في أمتداداتها ، ليطوي المراحل ، ويتجاوز السدود والحدود المصطنعة ليبقى خالدا مع المسار الانساني على امتداد الارض بكاملها ، والحسين ( عليه السلام ) أحد رجالات الزمن الذي أختزل كل تجارب الانبياء والمرسلين والمصلحين ليكون خلاصتهم وعصارتهم ، لهذا كانت نهضته عالمية ترجمتها مقولة : ( كل أرض كربلاء ، وكل يوم عاشوراء) ، ليبقى كتابا مفتوحا لم تكتمل فصوله بعد ، وإن الأمة التي اتخذت الرسول رسالة ، والحسين منهجا ، والمهدي أملا ، هي أمة حية لن تموت ، مهما تراكمت عليها المحن والخطوب ، فهي أمة تبنت الرسالة مبادئ ، والمحدقة بأعماق التأريخ الحسيني مقاومة ، والمتأملة بوعد المهدي مصلحا ، تبقى متوثبة ثائرة لن تهزم ولن تستسلم ، وهذا هو سر الحسين في نهضته ، ومن هنا تأتي مقولة الرسول المتواترة : ( حسين مني وأنا من حسين ، أحب الله من أحب حسينا) ، ولا نريد من كلمة ( مني) لنفسرها : بأن الحسين هو بعض تكويني من الرسول فقط في سماته وبصماته الوراثية ، بل هو من الرسول في رسالته وأهدافه وتطلعاته ، فهو الامتداد الطبيعي للرسالة المحمدية ، ولولاه لتغيرت السنة ، وتبدلت الشريعة ، وتحرف القرآن، ومسخ الانسان ، وبما أن قيمة الانسان بموقف وكلمة ليعيش وحيد زمانه ، فللحسين كلمات ومواقف تكفيه واحدة ليعيش مخلدا ومنها : ( ... مثلي لا يبايع مثلك _ يا يزيد _) ، لتكون هذه الكلمة حدا فاصلا ، وسيفا قاتلا لقائلها ، الذي لا يعرف المهادنة ، ولا المساومة ، ولا التبرير ، وأمثال ذلك ، فكلمة الحسين هذه سحبت بساط الشرعية المزعوم والمصطنع من بني أمية ومن يزيد خاصة ، كيف يبايع الحسين يزيد وهو الطليق ومن أبناء الطلقاء الذين لم يلقوا بأسلحتهم حتى أخر لحظة من فتح مكة ، وكيف يبايع الحسين وهو سيد شباب أهل الجنة يزيد الخليع والماجن ، المتظاهر بالفسق والفجور والكفر البواح ، وكيف يبايعه وهو سليل النبوة ، وورارث الامامة ، ومن بيت مختلف الملائكة ، ومهبط الوحي والتنزيل ، وهكذا كانت كلمة الحسين زمكانية تسير مع الزمان والمكان ، لتمتد مع البشرية وبقائها ، واستطاع حسين الزمن ان يصنف الأمة إلى صنفين لا ثالث لهما ، فهم أما مع خطه وجهاده ورسالته المحمدية ، وأما مع يزيد وفجوره وكفره من أبناء الشجرة الملعونة في القرآن ، ولا يوجد ثالث على الحياد ، لأنه يرى الحق ولا ينتصر له ، ويرى الباطل فيرضى به ، وبذلك يصنف ضد الحسين ونهضته ، وعليه ينطبق على الجميع مقولة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وأله وسلم) في المأثور عنه والمتواتر : ( من أحب قوما حشر معهم ، ومن أحب عمل قوم أشرك في عملهم ) ، وهكذا يبقى الحسين رجل الزمن والمعيار الذي تقاس به الأمور والمواقف عندما تتشابك الخطوط ، وتتداخل الألوان ، وعند إقبال الفتن المشبهه ، ليبقى الحسين مثالا للحق والحقيقة ومرآة لانعكاس الصور الحقيقية لا المزيفة ، أختم ما أفاض به عميد المنبر الحسيني رحمه الله بمقطوعته الرائعة ومنها: ( يا ابا الطف يا نجيعا إلى الآن تهادى على شذى الرمول ) (توج الارض بالفتوح فللرمل على كل حبة إكليل ) ( فأرجفوا انك القتيل المدمى أو من ينشئ الحياة قتيل ) ( كذبوا لن يموت رأئ لنور الشمس من بعض نوره تعليل ) (ويموت الرسول جسما ولكن في الرسالات لن يموت الرسول ) . د . حميد الدهلكي ٢٠٢١/٨/١٢