تنوع نيوز . ايناس الوندي
لم تصلهم قم في أوامر التهجير الصدامي،
ولا كُتبت أسماؤها في قوائم الإبعاد،
لكنها كانت هناك…
تفتح أبوابها بصمت للكورد الفيليين الذين عبروا الحدود بلا جنسية، وبلا بيوت، وبلا أسماء رسمية.
لم تكن قم مدينة عبور عابرة،
فقد احتضنت مرقد السيدة فاطمة المعصومة،
وتحوّلت بقدسيتها إلى ملاذٍ ديني وعلمي،
استقطب المنفيين قبل الزوّار،
والباحثين عن الأمان قبل طلاب العلم.
في ظل هذا الحرم، وجد الكورد الفيليون مساحة آمنة لإعادة ترتيب حياتهم،
لا كلاجئين مُعلنين،
بل كمنفيين يحاولون النجاة بصمت.
في أزقةٍ قريبة من الحرم، تشكّلت حياة جديدة لمن جُرّدوا من حياتهم القديمة.
عائلات فيلية حملت مفاتيح بيوت بغداد وخانقين ومندلي في جيوبها،
وسكنت غرفًا ضيّقة،
لكنها حافظت على لهجتها، وأكلها، وذاكرتها.
هنا، لم يكن المكان محايدًا.
تحوّل شارعٌ بلا اسم رسمي إلى ما يشبه الوطن المؤقّت،
وسمّاه الناس ببساطة: شارع العراقيين.
ليس لأن العراقيين وحدهم سكنوه،
ولا لأن الكورد الفيليين أرادوا نقش اسمهم عليه،
بل لأن اللغة العراقية كانت تُسمع أكثر من الفارسية،
والحنين كان أقوى من الخرائط.
في قم، عاش الفيليون بين التجارة والدراسة والحوزة،
يبحثون عن عمل نهارًا،
ويحصون أخبار العراق ليلًا،
ينتظرون عودةً لم تكن قريبة،
ولا منفىً يعترفون به.
هذا التحقيق لا يبحث عن شارع،
بل عن كيف تصنع الذاكرة أسماءها حين تغيب الدولة،
وكيف يتحوّل المكان إلى شاهدٍ حيّ على تهجيرٍ
لم يُغلق ملفّه حتى اليوم.
خاتمة: حين يصبح الشارع شاهدًا بدل الدولة
لم يكن شارع العراقيين في قم مجرّد مكانٍ للعبور،
بل شاهدًا صامتًا على واحدة من أكثر صفحات التهجير قسوة في تاريخ العراق الحديث.
هنا، لم تُرفع لافتات تطالب بالإنصاف،
ولم تُعلَّق صور الضحايا على الجدران،
لكن الذاكرة كانت تمشي على الأرصفة كل يوم.
رجال كبروا وهم يحملون هوية لا تعترف بهم،
ونساء علّمن أبناءهن لهجةً لا تُدرَّس في المدارس،
وأطفال كبروا بين بلدين،
لا يعرفون أيّهما ينتمي إليهم أكثر.
بعد عقود، عاد بعض الفيليين إلى العراق،
وبقي آخرون في قم،
لكن الشارع ظلّ يحمل اسمهم غير المكتوب،
كأن المكان قرر أن يعترف بهم
حين فشلت السياسة في ذلك.
هذا التحقيق لا يطالب بإعادة تسمية شارع،
بل بإعادة الاعتبار لقصصٍ أُجبرت على الصمت،
ولناسٍ لم يختاروا المنفى،
بل فُرض عليهم… ثم طُلب منهم أن ينسوه.
وفي النهاية،
قد تُمحى الأسماء من السجلات،
لكنها لا تُمحى من الأمكنة.