تنوع نيوز .ايناس الوندي
بين أطلال قرية قره لوس التابعة لقضاء مندلي، تلوح صورةٌ قديمة التقطت قبل أكثر من خمسين عامًا، وكأنها نافذة مفتوحة على زمنٍ كان فيه التعليم حلماً جماعياً يزرعه الآباء لأبنائهم بحفنة من الطين وسبّورةٍ من خشب.
إنها صورة من مدرسة النهروان الابتدائية، عام 1973، تختزل ملامح جيلٍ من أبناء القرى الكوردية الذين صنعوا أول حروف مستقبلهم وسط ظروفٍ بسيطة لكن قلوبهم كانت عامرة بالأمل.
تأسست المدرسة سنة 1952 في مضيف الحاج الشيخ عبد مصطفى بيك گچينه، الذي آمن بأن بناء مدرسة لا يقل شرفًا عن بناء مسجد.
كانت الغرف من الطين وسقوفها من القصب، لكن دفء الحلم كان أقوى من برد الشتاء.
وبجهوده الشخصية وجهود أبناء القرية، تحولت تلك المبادرة الفردية إلى مدرسةٍ خرّجت أجيالًا كثيرة من أبناء المنطقة.
يقول احد الباحثين :
"مدرسة النهروان لم تكن مجرد جدران من طين، بل رمزًا لبداية الوعي في قره لوس، وحكاية عن رجالٍ أدركوا مبكرًا أن التعليم هو الطريق الوحيد للخلاص."
في الصورة، يظهر مدير المدرسة منصور نادر عبد الله إلى جانب نخبة من المدرسين الذين تركوا بصمة لا تُنسى:
المرحوم معروف علي خانه، والمرحوم كمال الماس، والمرحوم نجم عارف، والمرحوم لازم حسن مراد، ويبدو في الخلف الأستاذ منذر سلوم.
أما الطلاب الذين التقطت لهم الصورة وهم في الصف السادس الابتدائي، فقد أصبح بعضهم من الأسماء البارزة في اختصاصاتهم، منهم:
الدكتور عبد الأمير جاسم محمد (معاون عميد كلية التقنيات الصحية والطبية – الجامعة التقنية الوسطى / بغداد)، ومحمود كريم، وحسن سلمان، ومحمد علي درويش، وأحمد بوري كريم، وفهد توفيق، ومجبل رحيم.
ابتساماتهم في الصورة تُخبرنا عن زمنٍ كانت فيه المدارس تُبنى بالعزم لا بالموازنات، وبالحلم لا بالخرائط.
زمنٍ كان فيه الشيخ والمزارع والمعلّم يجلسون على الأرض نفسها، يتقاسمون الرغيف والطبشور.
“رحم الله الأموات الذين رحلوا وبقي أثرهم، وحفظ الله الأحياء ممن حملوا تلك الذكريات جيلاً بعد جيل.”
الذاكرة التي لا تُمحى
ليست هذه الصورة مجرّد ذكرى من الماضي، بل وثيقة حيّة من الذاكرة الشفوية لمندلي ومناطقها الريفية التي احتضنت بدايات التعليم الكوردي الفيلي.
ففي مثل هذه المدارس، تشكّلت أولى ملامح الوعي الثقافي والاجتماعي، ونبتت جذور الهوية من رحم البساطة والإصرار.
إن توثيق هذه القصص اليوم ليس عملاً أرشيفيًا فحسب، بل هو حفظٌ لروح الناس البسطاء الذين حملوا رسالة التعليم على أكتافهم، من دون دعمٍ رسمي ولا عدساتٍ إعلامية، ليكتبوا تاريخًا صامتًا لكنه خالد.
توثيق وأرشفة: الباحث عبد الرسول جهانگير
سلسلة: ذاكرة مندلي
رقم الأرشفة: 2025/102