الصفحة الرئيسية / مدرسة النهضة للبنات في خانقين.. ذاكرة السباق الأول في ملعب تياره خانه

مدرسة النهضة للبنات في خانقين.. ذاكرة السباق الأول في ملعب تياره خانه

تحقيق: إيناس الوندي

في قلب مدينة خانقين، المدينة التي عُرفت بتنوعها الثقافي وعمقها الكوردي الفيلي، تقف ذاكرة مدرسة «النهضة الابتدائية للبنات» كواحدة من العلامات المضيئة في تاريخ التعليم البناتي في قضاء خانقين التابع لمحافظة ديالى.
ليست مجرد مدرسة ابتدائية، بل كانت نواة تربوية خرّجت أجيالاً من البنات اللواتي حملن الحلم والتعليم والهوية، في زمنٍ كان التعليم للبنات في المناطق الحدودية أشبه بنضال صامت ضد الأعراف والتحديات السياسية والاجتماعية.

ملعب تياره خانه.. المشهد الذي لا يُنسى
في أحد أيام الثمانينات، تجمّعت فتيات مدرسة النهضة بزيّهن الأبيض والأخضر، في ملعب «تياره خانه» الشهير وسط خانقين، لإحياء فعالية رياضية نُظّمت ضمن أنشطة المديرية العامة لتربية ديالى – فرع خانقين.
كانت المسابقة بسيطة في ظاهرها: سباق 100 متر للبنات، لكنها في ذاكرة المدينة كانت رمزًا للتغيير.
قالت إحدى الخريجات حين استذكرت ذلك اليوم:
«كنا نركض بأقدام صغيرة، لكننا نحمل على أكتافنا حلمًا أكبر من المضمار. كانت تلك المرة الأولى التي نخرج فيها أمام الجمهور، نهتف باسم مدرستنا، ونثبت أن البنت الفيليّة قادرة على أن تكون متعلمة ورياضية ومشرقة.
يصف شهود تلك المرحلة أنّ السباق كان يحضره أولياء الأمور، وعدد من الكوادر التعليمية والإدارية من المديرية، وبعض الشخصيات المحلية. لم يكن المشهد رياضيًا فحسب، بل احتفالًا جماعيًا بقدرة التعليم على جمع الناس رغم الظروف القاسية التي كانت تمرّ بها البلاد.

خانقين... المدينة التي علمت البنات الحلم
تاريخ خانقين مع التعليم البناتي يعود إلى بدايات القرن العشرين، حين بدأت العائلات الكوردية الفيلية تُرسل بناتها إلى المدارس في وقتٍ كانت فيه تلك الخطوة تُعدّ جريئة ومستنيرة.
كانت مدرسة النهضة من أوائل المدارس التي تبنت فكرة الأنشطة اللاصفّية كوسيلة لغرس الثقة والانتماء في نفوس الطالبات، وجعلت من التعليم فضاءً إنسانيًا لا يقل أهمية عن البيت.

في ذلك الزمن، كانت خانقين تزخر بالمعلمين الفيلية الذين أسسوا لنهضة فكرية هادئة. وكانوا يؤمنون أن تعليم البنات يعني تعليم المستقبل. من بين تلك المبادرات جاءت الأنشطة الرياضية والفنية التي عززت شخصية الفتيات وقدرتهن على الظهور والمشاركة في الحياة العامة.

المرأة الفيليّة والتعليم وسط العواصف السياسية
في الثمانينات، كانت خانقين تقع على تماسٍ مباشر مع الأحداث الكبرى: الحرب العراقية–الإيرانية، التهجير القسري للكورد الفيليين، وضغوط سياسية أرهقت المجتمع المحلي.
لكن رغم ذلك، لم تتوقف المدرسة.
استمرت معلماتها في رفع شعار "التعليم حق لا يسقط بالحرب"، وواصلت الطالبات حضورهن اليوميّ تحت أصوات صفارات الإنذار أحيانًا، وفي ظل نقص في الكتب والوسائل التعليمية أحيانًا أخرى.
كانت تلك السنوات تُختصر بعبارة متكررة على ألسنة الأهالي:

 «النهضة ما سكتت يوم.. البنات ظلّوا يقرون حتى والسماء تغلي نار.»

المورد الفيلي.. ذاكرة متجذّرة في الطباشير
لم تكن مدرسة النهضة للبنات مجرد صرح تربوي، بل كانت انعكاسًا للمورد الفيلي الذي تغذّت منه خانقين عبر أجيال.
المعلمون الفيليون نقلوا إلى الصفوف قيماً من الصبر والاحترام والكرامة، فيما نقلت البنات تلك القيم إلى بيوتهن وأحيائهن، ليصبح التعليم جسراً يربط الماضي بالحاضر.
ومن خلال تلك المسابقات والأنشطة – ومنها سباق 100 متر في ملعب تياره خانه – استطاعت البنات الفيليات أن يتركن بصمةً في ذاكرة المدينة، تتحدث عنها الصور القديمة والدفاتر المصفّرة إلى اليوم.

شهادات من الذاكرة
إحدى الخريجات تقول اليوم، وهي تتصفح ألبوم الصور القديمة:
 «كنت في الصف الرابع، أتذكر أني وقعت أثناء الركض، لكن المعلمة صفّقت لي وقالت: أهم شي حاولتِ. من يومها صرت أؤمن أن الفشل أحيانًا طريق البطولة.
ويقول أحد معلمي التربية الرياضية المتقاعدين:
 «ذلك السباق لم يكن مجرد نشاط مدرسي.. كان إعلانًا رمزيًا أن البنات لهنّ مكان على الأرض مثلما في الصف. بعده، بدأت مدارس أخرى تقلّد النهضة في إقامة نشاطات مشابهة.»

النهضة اليوم.. ذاكرة لا تموت
رغم تغيّر المبنى، ورحيل كثير من المعلمات القدامى، بقي اسم «النهضة» يلمع في ذاكرة خانقين.
تحوّل ملعب تياره خانه إلى مساحة تحمل صدى الضحكات والهتافات القديمة، وصار الحدث جزءًا من التاريخ الاجتماعي للمدينة.
واليوم، تسعى أجيال جديدة من بنات خانقين لاستعادة تلك الروح — روح التعليم الممزوجة بالعطاء، والهوية الفيليّة، والاعتزاز بالمدينة التي علمت البنات أن الركض نحو المستقبل لا يتوقف عند مئة متر.




21-10-2025, 00:05
العودة للخلف