الصفحة الرئيسية / قزر‌وات... من التكية الحمراء إلى مهد الكورد الفيلية في السعدية

قزر‌وات... من التكية الحمراء إلى مهد الكورد الفيلية في السعدية

تنوع نيوز . ايناس الوندي

في الممر الواصل بين بغداد وخانقين وقصر شيرين، وعلى ضفاف نهر ديالى، تمتد ناحية السعدية كقطعة من التاريخ الموشّى بأسماءٍ متعددة وأصواتٍ تتناوب بين الكوردية والعربية والفيلية.
لكن خلف هذا الاسم الرسمي، يختبئ اسم أقدم وأكثر عمقًا في الذاكرة الشعبية: "قزر‌وات" أو كما كان يُعرف أيضًا "قزلرباط" — الاسم الذي ظل شاهدًا على عصورٍ متعاقبة من الحضارة والهوية.

 جذور الاسم بين الرواية والتاريخ
تُروى حول أصل التسمية روايتان؛ الأولى تقول إن "قزلرباط" جاءت من حادثةٍ قديمة حين سقطت مجموعة من البنات في بئر أثناء اللعب في يومٍ عاصف، فارتبطت المنطقة باسم “قزلر” أي البنات، و”رباط” أي الموضع أو المكان.
أما الرواية الثانية، والأقرب للتفسير اللغوي، فتشير إلى وجود تكية مبنية بالطابوق الأحمر في المنطقة، ومن هنا جاءت التسمية من "قزل" أي الأحمر، و"رباط" أي التكية، فالمعنى يصبح "التكية الحمراء".
لكن في الذاكرة الكوردية الفيلية ظل الاسم الآخر "قزر‌وات" حاضرًا، وهو مشتق من الكلمة الفيلية "قزر" أي الخُضرة، و"وات" أي المكان، أي الأرض الخضراء — وهو وصف يليق بطبيعة السعدية الزراعية الخصبة التي اشتهرت عبر العصور بإنتاج التمور والخضروات والفستق والقمح.

 من السلاجقة إلى الدولة الحديثة
تُعد السعدية من أقدم النواحي التاريخية في محافظة ديالى، وقد شُيّدت فيها مقبرة لليهود تعود إلى عهد السلاجقة (1118م)، مما يؤكد عمقها التاريخي وتنوّعها الديني والاجتماعي.
وفي عام 1949، تغيّر اسمها رسميًا إلى "السعدية" بناءً على مقترح العميد حسن مصطفى النقيب، مؤلف كتاب تاريخ العرب العسكري، الذي استند إلى رواية عن معركة حاسمة بين المسلمين والفرس في هذه البقعة بقيادة هاشم بن عتبة أحد قادة سعد بن أبي وقاص. ومنذ ذلك التاريخ أصبح الاسم الرسمي السعدية، لكنّ الناس لم يتخلوا عن اسمهم الأول: قزر‌وات.

 الدور الكوردي الفيلي: روح الأرض وسواعدها

لم يكن الاسم وحده كورديًّا، بل كانت الأرض نفسها تنبض بالكورد الفيلية الذين أسّسوا ملامح الحياة الزراعية والاقتصادية في المنطقة.
فقد امتلك الفيليون أراضي زراعية على ضفتي نهر الوند، وطوروا أساليب ريّ متقدمة في خمسينيات القرن الماضي. كانوا فلاحين وتجارًا، لكنهم أيضًا حملة وعي اجتماعي وسياسي، شاركوا في الحركات الوطنية، ودفعوا ثمن انتمائهم خلال حملات التهجير في العقود اللاحقة.

يقول الحاج قادر الفيلي، أحد وجهاء المنطقة:
 “كنا نزرع ونروي الأرض مع جيراننا العرب والتركمان، ما ميّزنا لم يكن العِرق بل الإصرار على البقاء في أرضٍ جمعتنا جميعًا. قزر‌وات بالنسبة لنا ليست اسمًا، إنها بيتنا الأول.”

الحِرَف القديمة وذاكرة البيوت
عرفت السعدية – قزر‌وات – بحرفها التقليدية، مثل حياكة البُسط والمدّات، وهي صناعات كانت تُمارس بأساليب بسيطة لكنها حملت طابعًا فنيًا فريدًا.
أما الزراعة، فبقيت ركيزة حياة الأهالي، من الفستق والتمور إلى الرقي والبطيخ والطماطم، حتى صارت المنطقة تُعرف في ديالى بأنها سلة خضراء.


 السعدية في العواصف المعاصرة
لم تسلم هذه الناحية من مآسي الحروب الحديثة. ففي عام 2014، شهدت تهجيرًا قسريًا وقتلاً لعوائلٍ بأكملها، وتدميرًا في البنى التحتية، ما جعلها تعيش سنواتٍ من الصمت والألم.
لكنها اليوم، بجهود حكومية ومبادرات أهلية، بدأت تستعيد عافيتها، وتعود إليها الحياة تدريجيًا.

 السعدية.. نسيج من التعايش
ما يميز السعدية عن غيرها هو تنوّعها البشري؛ إذ يسكنها العرب والكورد الفيليون والتركمان، في نسيج اجتماعي ظل متماسكًا رغم كل العواصف
السياسية.

يقول المختار أبو مصطفى الفيلي:
 “في قزر‌وات ما كنا نعرف الحدود بيننا، كنا نزرع معًا ونحتفل معًا. التنوع هنا نعمة لا لعنة.”

 خاتما :
بين "قزلرباط" و"قزر‌وات" و"السعدية"، تتقاطع الأسماء وتتشابك الحكايات، لكن جوهر المكان واحد: أرضٌ تجمع، لا تفرّق.
هنا، في شرق ديالى، ما زالت التكية الحمراء شاهدة، والنهر يروي الأرض، والذاكرة تحفظ اسمًا لم يمت رغم تغيّر الأزمنة:

 “ما زلتُ قزر‌وات.”



11-10-2025, 21:19
العودة للخلف