أحد شباب الكرادة المؤمنين البارزين من مواليد 1955م، دكتور عاصم رشيد جاسم محمد الربيعي ، خريج كلية الطب جامعة الموصل، وبعد تخرجه تعين طبيباً مقيماً في مستشفى الموصل الجمهوري، كان شاباً قيادياً، وانتمى لحزب الدعوة، وتوطدت علاقته مع طلبة جامعة الموصل من مختلف كلياتها ، كلية الهندسة والآداب والعلوم وغيرها، كما أنه كان خطيباً مفوّهاً وأديباً وشاعراً، وينقل عنه مشاركاته الشعرية بالشعر الشعبي والقريض، وكم تصّدر مهرجانات الشعر التي أقامتها الجامعة، وفي إحداها ألقى قصيدة عن الحجاب ، وعفاف المرأة ، أخذت صدى كبيراً وانتشاراً واسعاً ولاسيما بين صفوف الطلبة والطالبات.
دكتور عاصم لم يظهر تدينه بلحيته أو ثيابه، وإنما كان مثالاً للمؤمن الحركي، وتمحور حوله الشباب، وربما كان لشخصيته المرحة دورا كبيرا في ذلك، كان هشاً بشاً خدوماً محباً للناس، ويبدي استعداده للمساعدة وإن لم تطلب منه.
وبعد انتشار التدين بجهود الدعاة في أروقة الجامعات ومنها جامعة الموصل، التفت لذلك أزلام النظام، وبدأت حملات الاعتقال، بل استفحلت وزادت شراسة في عام 1979 ومابعده، فكانت مديرية أمن الموصل تغص بجموع المعتقلين، وجلهم من طلبة وأساتذة الجامعة، هذه المديرية كان معاون مديرها (فؤاد دوش) ابن الحاج هادي دوش رجل طيب من أهالي النجف،الأسم الرسمي لفؤاد هذا في سجلات الأمن(طارق عبد الجبار يحيى)،عمل ضابطاً في الشعبة الخامسة، ومن ثم نقل إلى الموصل لتميزه بالقسوة وبما أبداه من إجرام وطاعة لأسياده، كما أنه من ضباط الأمن القلائل الذين يحملون شهادة البكالوريوس، وكان ذو ذاكرة قوية ودهاء كبير فهو بحق كان وبالا على الشباب المؤمن ، وجلادا متمرسا، أزهقت أرواح المعتقلين على يديه ، وبأقسى أنواع التعذيب، وشاع عنه قتل العشرات من الشباب المؤمن في دائرة أمن الموصل ، إذ كان مسؤولاً أمنيا عن جامعتي الموصل والسليمانية، فهو وإن كان معاوناً لمدير هذه المديرية، إلا أنه لإجرامه وصفاته تلك كان يغطي على المدير ويتفوق عليه ، ويتولى إدارة ملفاتها الأمنية بذاكرته المتقدة.
كان الخلاص من فؤاد دوش أملاً يحلم به الطلبة والشباب المتدين، فقرردكتورعاصم تولي هذه المهمة الجبارة، وتحمل المسؤولية من ذاته دون تكليف من حزب، كان مقداماً فقرر أن يحقق ذلك الحلم الذي كان أقرب للخيال، فمن يصل إلى هؤلاء وهم محاطون بأعداد من الحراس المسلحين؟؟
في أفضل جناح من أجنحة مستشفى الموصل العسكري ، والمطل على أجمل بقاع أرض العراق، وعلى ضفاف نهر دجلة قرب الجسر الجمهوري والذي يربط مركز المدينة بمنطقة مرقد نبي الله يونس عليه السلام ، كان كبار مسؤولي الحزب ودوائر الأمن القمعية يقضون في هذا الجناح في كل عام من شهر الى ثلاثة أشهر، للتخفيف عن الضغوطات النفسية التي يعانون منها نتيجة إجرامهم وتوغلهم بدماء الأبرياء ، كفترة نقاهة اجبارية يستعيدون بها طاقاتهم ليعودوا أشد من السابق ..
دكتور عاصم فكر أن هذا أفضل وقت ومكان للقضاء على هذا المجرم بعيداً عن دائرته القمعية، شاركه أحد طلبة كلية الهندسة شاب مؤمن متدين ومن عوائل النجف المعروفة، وأول حرف من اسمه (ع) وهو معتقل عدة مرات، ومن شدة التعذيب كان عنده عجز بالقلب ، وهو بعد شاب في مقتبل العمر..
وبحكم عمله طبيباً في هذا المستشفى ، مر دكتور عاصم على هذا المجرم في غرفته ، في ذلك الجناح كي يؤمن الوضع ويضع خطة العمل ، فلاحظ أنه انتفض من سريره وأمسك بمسدسه بمجرد أن فتح الباب ، على الرغم من أن برنامج النقاهة هذا يتضمن إعطاءه المهدئات ، فهؤلاء يعيشون حالة من القلق النفسي والخوف لكثرة إجرامهم ، الضغط النفسي الذي يواجههم نتيجة التعذيب والترويع للأبرياء، ووخز الضمير لمن لديه ضمير منهم.
لذا أدرك دكتور عاصم بأنه لا سبيل لأنجاح العملية دون تخدير هذا المجرم بمخدر أقوى من المتعارف ، وعلى حد ماعبر عنه لشريكه في العملية: "سوف أعطيه مخدرا لايفيق منه حتى المطي ..".
قدَم دكتور عاصم على إجازة اعتيادية من إدارة المستشفى وحصلت الموافقة، وفي يومها انفك من المستشفى ولم يداوم والإدارة وزملائه يعلمون أنه مجاز، مساءا مر عاصم بزي الأطباء على غرفة فؤاد وزرقه بالأبرة المهدئة اليومية ، إلا أنها كانت بجرعة كبيرة ممهداً للعملية، وبعد منتصف الليل عبر وصاحبه طالب الهندسة سور المستشفى الخارجي ، ووصلا إلى غرفته وكان يغط بنوم عميق، كانا يرتديان لباس الأطباء ، ويضعان أكمامات طبية على وجهيهما، عاصم يحمل معه سكينا كبيرا لقطع اللحوم (طبر)،وصاحبه سكينا أخرى أقل حجما، ضربه عاصم ضربة قوية على رأسه لدرجة أن بعضا من دماغه ظهر على الوسادة، ومنع زميله من طعنه بسكين على قلبه، اكتفى بتلك الضربة ولم يثني عليها، كان يريده أن يبقى حيا مشلولا ولم يبغ قتله، حقا كانت ضربة مهنية متخصصة، أعاقته إعاقة مازالت مستمرة بعد عقود وللحظة كتابة السطور يشهد أهالي النجف وجوده
أعاقته إعاقة مازالت مستمرة بعد عقود وللحظة كتابة السطور يشهد أهالي النجف وجوده مشلولاً على كرسي متحرك، رغم إشراف صدام حسين بنفسه على علاجه آنذاك، غدى مشلولا لايتكلم ولا يكتب، إلا أنه يسمع ويعي جيداً.
ضجت أجواء المستشفى بالحادث، وانتشر الخبر في كل العراق، وأثلجت صدور أهالي الضحايا الذين قتلهم هذا الجلاد..
كان دكتور عاصم مجازا يوم الحادث فعاد الى بغداد وفي بداية الأسبوع كعادته داوم في المستشفى ..تفاجأ بانهم اعتقلوا أغلب الكادر الطبي وبمداهمة منهم لم تمهله أعتقل هو الآخر..
لا أحد يعرف ماجرى في ذلك المعتقل الرهيب أمن الموصل والذي كان يلتهم عشرات الطلبة يوميا يطحنهم بين قطبي رحى التعذيب التي دارت ولم تتوقف.. فهم حتما قد تفننوا وأمعنوا في تعذيب الشهيد الدكتور وقد فدى هذا البطل منتسبي مستشفاه بنفسه معترفا بالحادث ليتحمل وحده كل الأذى وينجون ..نعم ليس مستبعدا على مؤمن كعاصم فهو روض نفسه وهيأها لمثل هذا اليوم ، كان طالبا الشهادة في كل دعاء ومستعدا لنيلها مهما كلف ذلك من عناء ..نعم نذر نفسه للإسلام وواصل ليله بالنهار لقضاء حوائج الاخوان والدعوة الى الله تعالى ، ولم يقضي حياته رتيبة ككل من كان في عمره ومستواه الوظيفي ، لم يتزوج ويقيد نفسه بقيود اجتماعية ، كان يجيبهم لا مجال لنفسي فقد نذرتها لله في كل حين ..
وحكموا عليه بالإعدام، وأعدم رضوان الله عليه، وسلّم جثمانه إلى أهله ، فوجدوا أن المجرمين قد إقتلعوا عينيه ، وشقوا صدره ، وأحرقوا جسده الطاهر حتى شعر رأسه قد انتزعوه من التعذيب. وصف الحاج (حسين جابر) زوج اخت عاصم الذي استلم الجثمان ، وأخذه إلى مقبرة دار السلام في النجف الأشرف، ممنوع على الاهل أن يرافق الجنازة مشيعون، إلا الشخص الذي يستلمها من دائرة الطب العدلي ، انه دخل تلك الغرفة الشديدة البرودة وهويقلب بالجثث العديدة، وأغلبها جثث لمعتقلين استشهدوا أثناء التعذيب، أخذه الشك بجثة فارعة الطول إلا أنها لاتشبه عاصم فهي مشوهة بشدة، تذكر أن عاصما ذات يوم أطفأ عقب سيكارة كان الحاج قد دخنها على ظاهر معصمه الأيسر ضاحكاً مردداً: أريد أراوي البعثيين الأنذال شلون يكدرون يطلعون اعتراف مني؟؟أطفأ السيكارة صابراً جلداً والحاج مذهول من ذلك.
وفعلا أدار معصم هذه الجثة فإذا هي جثته، ضيعوا ملامح وجهه الباسم ، وأطفأوا عينيه (قلعوهما)، انتزعوا شعر رأسه ، شقوا صدره ، وكووا جسده في أماكن متفرقة، على الدنيا بعدك العفا يادكتورعاصم، تمتم محوقلاً حابسا دموعه بين جفنيه وأشار لهم بتعرفه عليها ، وعبراته تتكسر في صدره على عاصم وعشرات الشباب ممن ماتوا صبراً في دهاليز البعث.
أكملوا الإجراءات بسرعة وسيارة الأجرة واقفة تنتظر خارجاً، سائقون معينون من قبل الأمن، وزودوا الحاج بشهادة وفاة للدكتور، وطلبوا منه الإسراع بالخروج ، حذروه من مرافقة أي مشيع، في الطريق تحدث الحاج حسين مع السائق معرفا بالجنازة في محاولة لتليين قلبه عسى أن يخالف ما شرطه أزلام الأمن عليه بأن يدفن الجثمان كما هو وبتابوته دون غسل وتكفين، توسل الحاج للسائق الذي بدأت مخاوفه تتبدد بعد أن ذكر اسم شخص يعرفه من أهالي الكرادة، وعلى عجالة أدى الحاج حسين مراسيم الغسل والتكفين وحيدا معه على المغتسل يبكي حسرات على ماشاهد بأم عينيه من آثار الوحشية التي مارسوها بحقه ، بكاه وضحكات عاصم ترن في أذنيه ..لم يصدق مايراه أحقا هذا البطل مسجى على عتبة المغتسل ؟! تبا لهم ولحقدهم علينا ما أبشع ما عذبوه به .. من الذي سلطهم على شبابنا وكفاءاتنا ؟!
دفنوه على عجل في أرض الغري ليدشن عاصم مقبرة آل رشيد ويودعه الحاج حسين بعبراته ويندبه بأسى ..نم قرير العين ياعاصم فان مثواك الجنة وليس هذا القبر ..
ياشباب ..ياشباب ..الما تهنى بزفته بيوم عرسه الدهر طفى شمعته
ياشباب.. الما شفت مثلك شباب بيوم عرسك وانت نايم بالتراب
وهكذا تدور رحى الظلم في عراق جثت عليه عصابة البعث وأحالت نهاره الى ليل دائم...ظلم يقتلع الأشجار المثمرة ليحرم منها الملايين ..يقتل كفاءات وألقاب علمية ندر وجودها.. رفض أن يكون الإنسان إنسانا..