د. علي المؤمن
ربما تكون مرحلة ما بعد السيد علي الخامنئي البالغ (85) عاماً من العمر (مواليد العام 1939)، مؤجلة على المستوى القريب، وفق المعايير الطبيعية، كونه يتمتع بصحة جيدة، فضلاً عن ثبات وضع الدولة الإيرانية واستقرار مجتمعها ونظامها السياسي. وقد تطول مرحلة بقاء السيد الخامنئي في موقع المرجعية الدينية والقيادة الرسمية لفترة لا تقل عن خمس سنوات. ولكن؛ وإن كانت هذه المرحلة مؤجلة مؤقتاً؛ فإنها ستكون صعبة على إيران وعموم الواقع الشيعي العالمي؛ بل لعلها على مستوى موقع القيادة الرسمي ستكون أكثر صعوبة وتعقيداً من مرحلة ما بعد السيد السيستاني النجفية؛ لأنّ السيد الخامنئي يمثل المرجعية الدينية من جهة وقيادة الدولة من جهة أُخرى، وقد ظل الوهج المعنوي لمرجعيته الدينية ومساحة مقلديه، يضفي قوة إضافية على موقع القيادة الرسمي، ونفوذاً معنوياً خارج حدود إيران، وهو ما سيفقده القائد القادم فيما لو لم يكن مرجع تقليد فعلي.
ويبدو صعباً، عند تشوّف المشهد الإيراني، إيجاد شخصية واحدة تملأ الفراغين اللذين سيتركهما السيد الخامنئي على المدى المنظور؛ بالنظر لصعوبة الشروط التي ينبغي توافرها في المجتهد الذي يجمع الموقعين، الديني المتمثل بالمرجعية العليا، والرسمي المتمثل بولاية الفقيه العامة الحاكمة. ومن هذه الشروط، أن يكون المجتهد الذي ينبغي أن يشغل موقع القيادة الحاكمة، معتقداً بولاية الفقيه المطلقة نظرياً وعملياً، وأن يكون على دراية بشؤون الدولة وعملها، وكفؤاً في مجال إدارة النظام العام وتدبيره، وواعياً بتعقيدات السياسة، وخاصة السياسة الدولية، وهو ما يلخّصه الفقهاء بشرط «الكفاءة»، الذي يضاف إلى الشـرطين الأساسيين الآخرين «الفقاهة» و«العدالة». وهذه الشروط يصعب إيجادها في فقيه بعيد عن الدولة والنظام، ولم يسبق له أن شغل موقعاً رأسياً فيها. فالسيد علي الخامنئي ـ مثلاً ـ شغل موقع رئاسة الجمهورية لدورتين كاملتين، قبل أن يتسلم موقع الولي الفقيه الحاكم، كما كان عضواً في مجلس خبراء الدستور ثم مجلس خبراء القيادة، أي أنّه كان يعي وعياً ميدانياً دقيقاً بعمل الدولة ومتطلباتها التفصيلية.
وربما يوجد عدد غير قليل من مراجع الحوزة القمية ممن يُعدّ قريباً من الدولة وشغل مواقع رسمية فيها؛ كالشيخ ناصر مكارم الشيرازي والسيد موسى الشبيري الزنجاني والشيخ جعفر السبحاني التبريزي والشيخ حسين النوري الهمداني والشيخ عبد الله الجوادي الآملي، وهم يمثلون اليوم أبرز مراجع الصفين الأول والثاني، وأغلبهم من تلاميذ الإمام الخميني، غير أنّ هؤلاء وغيرهم أكبر سناً من السيد الخامنئي، ومعدل أعمارهم (94) عاماً تقريباً، ويعاني أغلبهم من أمراض الشيخوخة الطبيعية.
لذلك؛ ينبغي هنا الحديث عن فقيهين يملآن الفراغ الذي سيتركه السيد الخامنئي، وليس فقيهاً واحداً، أحدهما للقيادة والآخر للمرجعية؛ ما يعني فصل الموقعين لأول مرة منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية في العام 1979 فصلاً مؤقتاً، كما كانت عليه حالة السيد الخامنئي في أول خمس سنوات من قيادته، أي قبل أن يتم طرح مرجعيته. وهذا يعني أن البحث سيتجه نحو فقهاء من خارج مواقع مرجعيات التقليد الحالية، ومن خارج الأسماء المعروفة المذكورة أعلاه؛ لأنّ موقع القيادة في دستور الجمهورية الإسلامية وفي الفقه لا يشترط أن يكون الولي الفقيه مرجعاً للتقليد؛ بل يكفي أن يكون مجتهداً.
ولا شك أنّ توافر الآليات المتعارفة والمقننة في إيران، على الصعيدين المرجعي والقيادي، سيسهل عملية الحسم، ويوصلها إلى النتيجة المطلوبة، وأهمها وجود جماعة مدرسي الحوزة التي ترشح مراجع التقليد، ومجلس خبراء القيادة الذي ينتخب الولي الفقيه الحاكم (قائد الدولة)؛ وإن لم تكن هذه الآليات مقبولة عند جميع المهتمين بالشأن المرجعي، وبينهم أصحاب الخطوط المرجعية الخاصة من خصوم الجمهورية الإسلامية.
المرجعية القمية بعد الخامنئي ومراجع الصف الأول
أول ما يتبادر إلى الذهن في هذا المجال هو أن يتم طرح أسماء مرجعيات الصفين الأول والثاني في حوزة قم؛ لتخلف مرجعية السيد الخامنئي، كما هو الحال مع النجف، وأبرزهم: الشيخ حسين الوحيد الخراساني البالغ من العمر (103) عاماً (مواليد العام 1921) والشيخ حسين النوري الهمداني البالغ (99) عاماً من عمره (مواليد 1925) ، والشيخ ناصر مكارم الشيرازي البالغ (97) عاماً (مواليد 1927)، والسيد موسى الشبيري الزنجاني البالغ (96) عاماً (مواليد 1928) والشيخ جعفر السبحاني البالغ (95) عاماً (مواليد 1929) والشيخ عبد الله الجوادي الآملي البالغ (90) عاماً (مواليد 1934)، وهم المعوّل عليهم في تزعم المرجعية العليا في إيران؛ لكن العامل الأساس الذي يلغي هذا المشهد برمته، هو أن جميع هؤلاء المراجع طاعنون في السن ويعانون من أمراض الشيخوخة أيضاً. ولا يختلف الأمر عن المرجعيات الرديفة الأصغر سناً، كالشيخ محمد علي گرامي القمي البالغ (86) عاماً (مواليد 1938).
ومن خلال ذلك؛ يتبيّن أنّ السيد علي الخامنئي هو أصغرهم سناً، وأنه يتمتع بصحة جيدة ولا يعاني من أمراض الشيخوخة، وأنه ربما يرث أغلب مقلدي مراجع إيران، وكثير من مقلدي مراجع النجف في بلدان العالم. لذلك؛ فإنّ الواقعية هنا تستدعي الحديث عن مرحلة ما بعد آية الله الخامنئي ومرجعيات الصف الأول والصف الثاني، وليس مرحلة ما بعد السيد الخامنئي وحسب.
أمّا الخطوط المرجعية الخاصة، كالمرجعية الشيرازية، أو الشخصيات التي طرحت مرجعياتها خارج السياقات المتعارفة؛ فليس لها أية حظوظ في بلوغ المرجعية العليا أو مرجعيات الصف الأول في قم؛ لأنّ أعراف الحوزة القمية وسياقاتها لا تختلف كثيراً عن المعايير والسياقات النجفية، وتشمل هذه القاعدة علماء دين إيرانيين وعراقيين وأفغانستانيين وباكستانيين معروفين في قم.
ويبدو أنّ الاحتمال الأقرب إلى التحقق في إيران، في مرحلة ما بعد السيد الخامنئي ومراجع الصفين الأول والثاني الطاعنين في السن، هو الاحتمال المرجّح نفسه في النجف في مرحلة ما بعد السيستاني ومراجع الصف الأول؛ أي بروز فقهاء من أساتذة البحث الخارج المرموقين، ممن طرحوا أو لم يطرحوا أنفسهم مراجع تقليد حتى الآن، ومن المؤكد أنّ أغلبهم سينشر رسالته الفقهية العملية بعد رحيل مراجع الصفين الأول والثاني في قم، وأبرز هؤلاء: السيد علي المحقق الداماد، والشيخ علي كريمي الجهرمي، والسيد محمد جواد العلوي البروجردي، والسيد علي أصغر الميلاني، والسيد أحمد المددي، والشيخ صادق الآملي اللاريجاني، والشيخ مهدي شب زنده دار الجهرمي، ومعدل أعمارهم (75) سنة، وما يلي نبذة عن سيرهم:
1- السيد علي الحسيني المحقق الداماد:
ولد في مدينة قم في العام 1941 في أسرة علمية دينية؛ فجدّه لأُمّه هو المرجع الشيخ عبد الكريم الحائري الذي أعاد تأسيس الحوزة العلمية في قم، ووالده الفقيه المعروف السيد محمد المحقق الداماد. درس العلوم الدينية في حوزتي قم والنجف، وبعد بلوغه مرحلة البحث الخارج درس عند كبار فقهاء قم، كأبيه السيد محمد المحقق الداماد، والسيد محمد رضا الگلپايگاني، والميرزا الشيخ هاشم الآملي، وفي النجف الأشرف درس على السيد أبو القاسم الخوئي والشيخ حسين الحلي. شغل بين العامين 1981 و1991 عضوية المجلس الأعلى لإدارة الحوزة العلمية في قم، كما صبّ اهتمامه في الفترة نفسها على أسلمة وتدوين قوانين السلطة القضائية. وهو حالياً رئيس هيئة أمناء جامعة المفيد (أكبر جامعة دينية أكاديمية في قم).
2- الشيخ علي كريمي الجهرمي:
ولد في مدينة جهرم (من توابع شيراز) في العام ١٩٤٠، وهو صهر المرجع الديني الراحل الشيخ لطف الله الصافي الگلپايگاني، أي أنّ زوجته هي حفيدة مرجع قم الأعلى الراحل السيد محمد رضا الگلپايگاني. بدأ دراسته الدينية في مدينتي جهرم وشيراز، ثم انتقل إلى قم ليدرس في حوزتها العلمية مرحلة السطوح ثم البحث الخارج، فحضر عند مراجع قم الكبار، كالميرزا الشيخ هاشم الآملي والإمام الخميني والشيخ محمد علي الآراكي والسيد محمد رضا الگلپايگاني. وبعد عشرين عاماً من تدريس مرحلة السطوح العالية، بدأ في العام 1992بتدريس البحث الخارج.
3- السيد محمد جواد العلوي البروجردي:
ولد في مدينة قم في العام 1952 في أُسرة علمية دينية؛ فجدّه لأُمّه هو مرجع قم الأعلى السيد حسين البروجردي، وأبوه الفقيه السید محمد حسین العلوي البروجردي. تدرج في الدراسة الدينية في حوزة قم حتى وصل إلى مرحلة البحث الخارج، فحضر عند الشيخ الوحید الخراساني والسید محمد الروحاني والشيخ عبد الله الجوادي الآملي. ثم بدأ البحث الخارج منذ العام 1991، وأعلن مرجعيته في العام 2018، رغم تحفظ جماعة مدرسي الحوزة العلمية في قم على ذلك.
4- السيد علي أصغر الحسيني الميلاني:
ولد في النجف الأشرف في العام 1947 في أُسرة علمية دينية إيرانية وعراقية عريقة، فجدّه هو المرجع الديني السيد محمد هادي الميلاني ووالده السيد نور الدين الميلاني من كبار علماء كربلاء. درس مرحلتي المقدمات والسطوح في الحوزة العلمية في كربلاء، ثم انتقل إلى النجف الأشرف لإكمال دراسته في البحث الخارج، إلّا أنّ موجات التهجير التي شنها نظام البعث، ضد من أسماهم التبعية الإيرانية، طالته في العام 1970، فانتقل إلى مدينة مشهد وحضـر دروس البحث الخارج عند جده السيد محمد هادي الميلاني. ثم هاجر إلى مدينة قم، ومارس تدريس مرحلة السطوح إلى جانب حضوره دروس كبار فقهائها، كالسيد محمد رضا الگلپايگاني والشيخ حسين الوحيد الخراساني والسيد محمد الحسيني الروحاني والشيخ مرتضى الحائري. ثم بدأ بتدريس البحث الخارج في العام 1992.
5- السيد أحمد الموسوي المددي:
ولد في النجف الأشرف في العام 1953 في أسرة علمية دينية؛ فجدّه لأُمّه هو مرجع النجف الأعلى السيد أبو الحسن الموسوي الإصفهاني، وأبوه الفقيه السيد محمد المددي، أكمل دراسة السطوح العالية في النجف، ثم حضر بحوث الخارج عند السيد أبو القاسم الخوئي بدءاً من العام 1969. وحين أراد العودة إلى العراق بعد أدائه فريضة الحج في العام 1980، منعته سلطات البعث، فاضطر إلى الذهاب إلى إيران، واستقر في مدينة قم، وحضر لفترة وجيزة دورس السيد محمد رضا الگلپايگاني والشيخ مرتضى الحائري والشيخ حسين الوحيد الخراساني والميرزا الشيخ جواد التبريزي، وما لبث أن بدأ بإعطاء دروس البحث الخارج.
6- الشيخ صادق الآملي اللاريجاني:
ولد في النجف الأشرف في العام 1960 في أُسرة علمية دينية؛ فأبوه هو الشيخ المیرزا هاشم الآملي، أحد كبار مراجع النجف وقم، كما أنه صهر الشيخ حسين الوحید الخراساني، أحد كبار مراجع قم.. وبدأ دراسته الدينية في العام 1977 بعد تخرجه في الثانوية. وخلال سنوات قليلة أتمّ مرحلتي المقدمات والسطوح، وبدأ بحضور الدراسات العليا (البحث الخارج) على يد كبار فقهاء قم، أمثال: والده، والشيخ حسين الوحيد الخراساني. ثم بدأ بعد العام 1989 بتدريس البحث الخارج في الفقه وأُصوله. انتُخب عضواً في مجلس خبراء القيادة لدورتين الثالثة والرابعة، وعضواً في مجلس صيانة الدستور، ثم رئيساً للسلطة القضائية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية في الفترة من 2009 إلى 2019، ثم رئيساً لمجمع تشخيص مصلحة النظام.
7- الشيخ مهدي شب زنده دار الجهرمي:
ولد في مدينة جهرم (من توابع محافظة شيراز) في العام 1953 في عائلة علمية دينية؛ فأبوه هو الفقيه المعروف الشيخ حسين شب زنده دار، وانتقل مع والده إلى قم، وفيها بدأ دراسته في حوزتها العلمية، وتدرج في المراحل العلمية حتى بلغ مرحلة البحث الخارج، فحضر دروس الشيخ مرتضى الحائري والشيخ حسين الوحيد الخراساني والميرزا الشيخ جواد التبريزي. ثم أخذ يقدم دروس البحث الخارج منذ العام 1985. وبعد بضع سنوات أصبح عضواً في مجلس إدارة الحوزة العلمية في قم، إضافة إلى عضوية مجلس صيانة الدستور منذ العام 2013.
وعلى خلاف حوزة النجف؛ فإن هناك ثلاث مؤسسات حوزوية رأسية في قم لها دور أساس في ترشيح المرجعية الجديدة، هي: جماعة مدرسي الحوزة العلمية، والمجلس الأعلى لإدارة الحوزة العلمية، والمجلس الأعلى للحوزات العلمية في إيران، إلّا أنّ الدور المركزي يبقى لجماعة مدرسي الحوزة العلمية في قم، والتي تتألف من (56) مجتهداً، أغلبهم من كبار أساتذة البحث الخارج، وهي المؤسسة الشيعية الدينية الأكثر نفوداً، والتي تمثل ما يعرف حوزوياً بـ «أهل الخبرة»، أي أنّها بمثابة مجلس شورى حوزوي ينظم عمل أهل الخبرة وجماعات الضغط الداخلي. ومما يزيد من نفوذ هذه الجماعة أنّ أغلب أعضائها هم في الوقت نفسه أعضاء في مجلس إدارة حوزة قم ومجلس الحوزات العلمية في عموم إيران من جهة، ومجلس الخبراء ومجلس صيانة الدستور التابعين للدولة من جهة أُخرى؛ أي أنّهم مساهمة أساسية ومباشرة في تنظيم عملية حسم موقع المرجعية في قم ويسهلها؛ بل حسم موقع ولاية الفقيه في مرحلة ما بعد السيد الخامنئي أيضاً.
الولي الفقيه بعد آية الله الخامنئي
عادةً ما يغلب الحديث في إيران وخارجها عن مستقبل منصب الولي الفقيه في إيران، والشخصية التي يمكن أن تملأ فراغ آية الله الخامنئي، على الحديث عن المرجعيات الدينية البديلة، وخاصة بعد تداول السيد الخامنئي هذا الموضوع في اجتماعه بمجلس الخبراء في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024؛ حيث شدد على أهمية أن يخرج المجلس بنتيجة عملية في هذا الشأن؛ للتحضير لاختيار الولي الفقيه الثالث في تاريخ الجمهورية الإسلامية. وهذا لا يعني وجود طارئ معين أو حدث مستجد؛ بل هو استمرار لتأكيداته السابقة التي بدأها منذ العام 2016.
وتتزايد أهمية الحديث عن هذا الموضوع؛ بالنظر لما يشكله موقع الولي الفقيه من تأثير أساس على واقع إيران والشيعة والمنطقة برمتها، بل والعالم في بعض أوجهه، وخاصة أن آية الله الخامنئي يجمع بين موقع المرجع الدينية وموقع الولي الفقيه الرسمي، ويحظى بتقليد ما يقرب من 40% من المؤمنين الشيعة، من الجزائر وحتى إندونيسيا، وليس في إيران وحسب، وما يشكله ذلك من معادلة تأثير وتأثر ديني واجتماعي وثقافي وسياسي.
وخلافاً لموقع المرجعية الدينية الشيعية الذي يتم اختيار من يشغله وفق السياقات التقليدية المتعارفة في النجف وقم؛ فإنّ الولي الفقيه (القائد/ رئيس الدولة) في الجمهورية الإسلامية الإيرانية يختاره مجلسٌ رسمي من الفقهاء من أهل الخبرة، يُنتخب أعضاؤه انتخاباً شعبياً مباشراً كل ثمان سنوات، اسمه «مجلس خبراء القيادة»، وهي سلطة علمية سياسية خبروية مستقلة، تتألف من (88) مجتهداً، وتختص بانتخاب الولي الفقيه (قائد الدولة) ومراقبته وعزله، أي أن الولي الفقيه يتم انتخابه انتخاباً شعبياً غير مباشر، أي عبر مجلس الخبراء المنتخب شعبياً.
وقد بدأ مجلس الخبراء منذ العام 2016، بالبحث بجدية في موضوع خلافة آية الله الخامنئي، بعد أن طلب منه السيد الخامنئي حينها من مجلس الخبراء خلال اجتماعه بهم حينها، أن يفكروا عملياً في اختيار القائد البديل، مرجحاً أن يكون المرشحون في حدود (10) شخصيات. وقرر المجلس تشكيل لجنة ثلاثية سرية لدراسة المرشحين المؤهلين، أي الذين تنطبق عليهم شروط الاجتهاد، والعدالة والتقوى، والكفاءة السياسية والإدارية، والحكمة والبصيرة، وهي الشروط التي فصّلها دستور الجمهورية الإسلامية، فضلاً عن المرجِّحات غير المدونة، كالسيادة، أي انتسابه لذرية رسول الله، وأن يكون ملتزماً بنهج الإمام الخميني والإمام الخامنئي، وخاصة في مجال السياسة الخارجية.
وباشرت اللجنة الثلاثية بدراسة عشرات الملفات للمرشحين المحتملين، دون أن تكشف عن أي من النتائج التي تتوصل إليها، حتى لمجلس الخبراء نفسه، لأن قرار المجلس كان مبنياً على قاعدة السرية في عمل اللجنة، وأن يتم طرح المرشحين على مجلس الخبراء في حال وفاة آية الله الخامنئي أو استقالته أو عزله، وتترك اللجنة حينها للمجلس حرية تداول الأسماء ودراستها وانتخاب من يراه مناسباً للموقع. وحينها بدأت التكهنات والتوقعات بالظهور من مختلف الأوساط الداخلية والخارجية؛ فطُرحت أسماء معروفة ومشهود لها بالمستوى العلمي والعدالة والكفاءة والممارسة الإدارية والسياسية، كرئيس الجمهورية الأسبق الشيخ أكبر الرفسنجاني (ت 2016) ورئيس القضاء الأسبق السيد محمود الهاشمي (ت 2018) والفقيه والمفكر الأُصولي الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي (ت 2020) ووزير الاطلاعات الأسبق الشيخ محمد ري شهري (ت 2022).
إلّا أن أكثر شخصيتين تم التركيز عليهما ـ فيما بعد ـ هما رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام الشيخ صادق اللاريجاني ورئيس الجمهورية السابق السيد إبراهيم رئيسي. ثم أصبحت الأنظار تتجه ـ تحديداً ـ إلى السيد إبراهيم رئيسـي، وكان رأي اللجنة الثلاثية المذكورة بأن يأتي رئيسي خلفاً للسيد الخامنئي في موقع القيادة شبه محسوم. غير أنّ وفاته في العام 2024، أعادت فتح ملف البديل القيادي للسيد الخامنئي، وحينها طُرح اسم الشيخ صادق اللاريجاني مرة أخرى، فضلاً عن أسماء جديدة، بعضها معروف شعبياً وإعلامياً، والآخر لا يحظى بالشهرة نفسها؛ كالسيد حسن الخميني والسيد أحمد الخاتمي والسيد مجتبى الخامنئي والشيخ محسن الأراكي والشيخ علي رضا الأعرافي والسيد هاشم الحسيني البوشهري والسيد محمد مهدي مير الباقري وآخرين. غير أن تداول هذه الأسماء لم يصدر من اللجنة الثلاثية التي شكلها مجلس الخبراء، بل هو جزء من تكهنات المراقبين والمعنيين.
ويمكن القول إن عقبات أساسية تقف أمام بعض هذه الشخصيات، وخاصة السيد حسن الخميني، حفيد الإمام الخميني، بسبب عدم قبول ترشيحه سابقاً لمجلس الخبراء، ما يعني عدم تمتعه بشرط الاجتهاد، وكذلك السيد أحمد الخاتمي، إمام جمعة طهران المؤقت؛ بسبب عدم تمتعه بالمقبولية من كثير من التيارات السياسية الأساسية. أما السيد مجتبى الخامنئي، الابن الثاني لآية الله الخامنئي؛ فإنّ أباه رفض تداول اسمه وترشيحه، لأن ذلك يعني ـ كما أكد ـ توريث الحكم، فضلاً عن أنه لا يوافق أن يكون أولاده وأحفاده وأصهاره في مناصب حكومية ومواقع سياسية ومالية، رغم أن السيد مجتبى الخامنئي يتمتع بشرط الاجتهاد، وهو أحد أساتذة البحث الخارج (الدراسات العليا) في الحوزة. وربما كان تركيز الجماعات السياسية المعارِضة للجمهورية الإسلامية على اسم السيد مجتبى الخامنئي؛ بوصفه المرشح الأوفر حظاً، تقف وراءه تسريبات المؤسسات الإيرانية الرسمية المعنية؛ لصرف الأنظار عن المرشح الحقيقي.
وبالتالي؛ يمكن القول إن أسماء الشخصيات الخمسة التي تبقى في دائرة الاحتمالات، والتي يبلغ متوسط أعمارها (65) سنة، هي:
1- الشيخ صادق اللاريجاني:
سبق الحديث عن سيرته في فقرة سابقة.
2- الشيخ محسن الأراكي (العراقي):
ولد في النجف الأشرف في العام 1956، في عائلة علمية دينية؛ فوالده كان من كبار فقهاء النجف. بدأ الشيخ الأراكي دراسته في النجف الأشرف في العام 1968، وكان من أبرز أساتذته آية الله السيد محمد باقر الصدر. هاجر إلى إيران في العام 1976 بعد ملاحقته من سلطات البعث، بسبب تعاونه مع الحركة الإسلامية العراقية وانخراطه في حركة الإمام الخميني في الوقت نفسه. وفي قم استأنف دراسته العليا في حوزتها على يد كبار فقهائها، كالشيخ الوحيد الخراساني والسيد كاظم الحائري. وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران انخرط في سلك القضاء، ثم ابتعثه آية الله الخامنئي الى بريطانيا وكيلاً عاماً عنه، وهناك أسس «المركز الإسلامي» و«جماعة علماء المسلمين في بريطانيا»، كما حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة بورتسموث البريطانية في الفلسفة المقارنة. وبعد عودته إلى إيران في العام 2004، تم تعيينه أميناً عاماً للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، وعضواً في جماعة مدرسي الحوزة العلمية في قم، وعضواً في المجلس الأعلى لإدارة الحوزة العلمية في قم، كما انتخب عضواً في مجلس الخبراء، وهو اليوم أحد كبار الفقهاء في الحوزة ومن أساتذة البحث الخارج فيها.
3- الشيخ علي رضا الأعرافي:
ولد في العام 1959في مدينة ميبد (محافظة يزد) في عائلة علمية دينية؛ فقد كان والده فقيهاً معروفاً وصديقاً مقرباً من الإمام الخميني. بدأ دراسته الحوزوية في قم في العام 1970، واستمر منتظماً فيها حتى حصوله على درجة الاجتهاد، وكان من جملة أساتذته: السيد كاظم الحائري والشيخ الوحيد الخراساني والشيخ مرتضى الحائري. تسنم عدد من المناصب الإدارية الحوزوية منذ ثمانينات القرن الماضي، ثم أصبح رئيساً لـ«المركز العالمي للعلوم الإسلامية» ثم جامعة المصطفى العالمية حتى العام 2017. كما عمل عضواً في المجلس الأعلى للثورة الثقافية، وعضواً في جماعة مدرسي الحوزة العلمية، ورئيساً لمجلس إدارة الحوزات العلمية في إيران، وعضواً في مجلس صيانة الدستور، كما تم انتخابه عضواً في مجلس الخبراء في العام 2021، وهو اليوم أحد فقهاء قم البارزين.
4- السيد هاشم الحسيني البوشهري:
ولد في العام 1956 في بوشهر (جنوب إيران). التحق في مطلع شبابه بالحوزة العلمية في قم، وتدرج في الدراسة حتى حاز درجة الاجتهاد، وكان من أبرز أساتذته: الميرزا هاشم الآملي والشيخ ناصر مكارم الشيرازي والشيخ حسين الوحيد الخراساني والميرزا جواد التبريزي. وإلى جانب تدريسه البحث الخارج (الدراسات العليا) في حوزة قم؛ فإنه شغل عدداً من المناصب الرأسية فيها، أهمها رئاسة مجلس إدارة الحوزة، ورئاسة جماعة مدرسي الحوزة، فضلاً عن كونه إمام الجمعة المؤقت في قم، كما انتخب عضواً في مجلس الخبراء، ثم النائب الأول لرئيس المجلس.
5- السيد محمد مهدي مير الباقري:
ولد في مدينة قم في العام 1961، ودرس في حوزتها العلمية في سن مبكرة، وكان من أبرز أساتذته في مرحلة الدراسات العليا: الميرزا جواد التبريزي والشيخ حسين الوحيد الخراساني والشيخ محمد تقي بهجت والشيخ جعفر السبحاني، ويعد اليوم من كبار فقهاء قم وأحد أساتذة البحث الخارج في حوزتها، إضافةً إلى كونه أحد أهم المفكرين الإسلاميين الناشطين في المجال البحثي والتنظيري وتجديد الفكر الإسلامي، ويشتهر بالخطب والحوارات الدينية الفكرية التي تمثل التيار الديني والسياسي الأصولي في إيران، وهو يميل إلى الأعمال العلمية والفكرية والتنظيرية أكثر من الأعمال الإدارية والسياسية والمناصب الحكومية، ولذلك لم يتسلم أي منصب إداري حوزوي أو منصب حكومي، باستثناء عضوية مجلس خبراء القيادة ورئاسة أكاديمية العلوم الإسلامية في قم.
وهناك إجماع لدى الرأي العام الحوزوي على اجتهاد هؤلاء الخمسة وفقاهتهم واستقامتهم واعتدال مواقفهم العلمية والحوزوية والاجتماعية والسياسية. ورغم ذلك؛ فإن هناك من يُضعف من حظوظ كل واحد منهم؛ فالشيخ صادق اللاريجاني أخفق في الفوز في انتخابات مجلس الخبراء التي جرت في العام 2023، أما الشيخ محسن العراقي فأصوله عراقية، في حين أن الشيخ علي رضا الأعرافي ليس لديهم خبرة في إدارة الدولة؛ فضلاً عن كون هؤلاء الثلاثة (اللاريجاني والعراقي والأعرافي) ليسوا من السادة (ذرية رسول الله)، وهو معيار شكلي ترجيحي، يميل إليه عموم الشيعة غالباً، سواء في العراق أو إيران أو البلدان الأخرى. كما يرد إشكال عدم امتلاك الخبرة في إدارة الدولة على السيد هاشم الحسيني البوشهري والسيد محمد مهدي مير الباقري، باستثناء عضويتهما في مجلس الخبراء؛ إذ تتلخص خبراتهما الإدارية في المجالات العلمية والحوزوية. ولعل من الطبيعي أن ترد هكذا ملاحظات وغيرها على جميع من يتصدى لموقع المرجعية والقيادة.
ويُعتقد أن انتخاب الولي الفقيه القادم سيتم بسلاسة، ودون حدوث إشكالات أمنية وسياسية؛ بالنظر لاستحكام المنظومة المؤسساتية للدولة، بما في ذلك المؤسسات الدينية والسياسية والعسكرية، وقدرتها على تجاوز الحدث، ومنع حدوث أي خلل في حركة النظام، ووضوح عمل السلطة الدستورية المعنية بانتخاب الولي الفقيه الجديد، فضلاً عما سرّبه خلال نيسان/ إبريل 2024 عضو مجلس الخبراء السيد محمد علي الجزائري بأن الولي الفقيه القادم قد تم تحديده من قبل مجلس الخبراء، لكن اسمه سيبقى قيد السرية؛ تبعاً لقرار المجلس؛ للحيلولة دون تعرضة للخطر؛ ما يعني تصفير احتمالات بروز خلافات بين المجتهدين الـ (88) حول شخصية الوالي الفقيه الجديد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإحالات
(1) لم يكن السيد علي الخامنئي مرجعاً دينياً حين انتخب لمنصب القائد، ولكن بعد وفاة المرجع الأعلى السيد محمد رضا الموسوي الگلبايگاني في العام 1993 ثم المرجع الشيخ محمد علي الأراكي في العام 1994؛ حين طرحت الأوساط العلمية الدينية في إيران، وخاصة جماعة مدرسي الحوزة العلمية في قم وجماعة علماء طهران، مرجعية السيد الخامنئي، والتي تحولت خلال عشر سنوات إلى إحدى المرجعيتين الشيعيتين الأعليين على مستوى العام.
(2) «دستور الجمهورية الإسلامية في إيران»، المادتان 107ـ 108. أنظر: د. علي المؤمن، «القانون الدستوري والنظام السياسي في إيران»، ص 167 -175.
(3) المصدر السابق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لمتابعة "كتابات علي المؤمن" الجديدة وارشيف مقالاته ومؤلفاته بنسخة (Pdf) على تلغرام: https://t.me/alialmomen64