لم تكن اساءاتها وتجاوزاتها الاخيرة على مقام المرجعية الدينية العليا، هي الاولى من نوعها، واغلب الظن انها لن تكون الاخيرة، مادام الخط السياسي للمملكة العربية السعودية يتحرك بطريقة ملتوية ومنحرفة وخاطئة، وبالتالي لايمكن ان تكون نهاياته سليمة وايجابية ومثمرة".. هذا ما علق به احد المراقبين على الاساءة الاخيرة لصحيفة الشرق الاوسط السعودية(3 تموز 2020) ضد المرجع الديني الكبير اية الله العظمى السيد علي السيستاني، حينما نشرت رسما كاريكاتوريا يظهر المرجع السيستاني حاملا مقصا كبيرا ويحاول بواسطته قطع سلسلة حديدية تربط بين عربتي قطار، الاولى ترمز للعراق والاخرى ترمز لسيادته.
من الطبيعي جدا ان تكون هناك ردود فعل عراقية وغير عراقية غاضبة ومستهجنة ومطالبة بأتخاذ موقف حازم حيال الصحيفة والجهة الراعية والممولة والمالكة لها، انطلاقا من جملة وقائع وحقائق، لعل منها، ان "الشرق الاوسط" اعتادت على التجاوز والاساءة للعراق والعراقيين بين الفينة والاخرى، عبر اخبارها وتقاريرها ومقالاتها ورسومها، وهو منهج درجت عليه مختلف وسائل الاعلام السعودية، سواء الدولية مثل الصحيفة المشارة اليها، وقناتي العربية والعربية الحدث، وصحيفة ايلاف الالكترونية وغيرها، او وسائل الاعلامية المحلية التي غالبا ما تكون بعيدة عن الرصد والمتابعة الدقيقة من الخارج بأعتبار انها موجهة بالدرجة الاساس للرأي العام المحلي.
فعلى سبيل المثال، قبل حوالي اربعة اعوام، وتحديدا في العشرين من شهر تشرين الثاني-نوفمبر 2016، نشرت الصحيفة في اعلى صفحتها الاولى تقريرا مطولا بمانشيت بالخط العريض (الباسيج ومليونا ايراني في المدينة لزيارة الاربعين.. تحذير اممي من حالات الحمل غير الشرعي في كربلاء).. وفي ذلك التقرير الذي ارادت الصحيفه من خلاله الاساءة للمكون الشيعي، الذي يمثل غالبية الشعب العراقي، ولزوار الامام الحسين عليه السلام، وكذلك لايران، نسبت المعلومات المغلوطة فيه الى منظمة الصحة العالمية، وهو ما سارعت الاخيرة الى نفيه وتفنيده بالكامل، الامر الذي احرج الصحيفة ودفعها الى الاعتذار، في ذات الوقت اقدم فريق عمل مكتبها ببغداد على تقديم استقالة جماعية منها.
ولم يقف الامر عند هذا الحد، ففيما بعد كانت مرة تسيء للحشد الشعبي، ومرة تسيء للجيش العراقي، ومرة تسيء للحكومة، وهكذا، دون ان ننسى الاساءات والتجاوزات المتكررة للسفير السعودي السابق في العراق ثامر السبهان، والذي اضطرت الرياض بسبب ضغوط بغداد المتواصلة الى استبداله بشخص اخر، كل ذلك في الوقت الذي كان حكام السعودية يدعون رغبتهم ببناء علاقات ايجابية بناءة مع العراق، وهم الذين لعبوا الدور الاكبر في دعم وتمويل الجماعات والتنظيمات الارهابية لارتكاب ابشع الجرائم ضد العراقيين على مدى اعوام طويلة.
الحقيقة الاخرى وراء حدة وسعة ردود الافعال الغاضبة والمستهجنة لاساءة "الشرق الاوسط"، تمثلت في انها استهدفت اكبر واعلى رمز ديني في العالم الاسلامي لا في العراق فحسب، اذ ان المعروف لدى الكثيرين، ان هناك عشرات الملايين من اتباع ومقلدي السيد السيستاني يتوزعون على دول مختلفة يعد العراق واحدا منها، ولاشك ان اي اساءة له لابد ان تثير حفيظتهم وتؤجج مشاعرهم، فضلا عن ذلك، فأنه حتى لو سلمنا بما ادعته ادارة الصحيفة في توضيحها من انها لم تقصد السيد السيستاني ولا اي شخصية دينية عراقية، فأن الاساءة لاي رمز ديني اخر يمثل مكونا كبيرا ومؤثرا كالمكون الشيعي، لايمكن القبول به والسكوت عنه.
وثمة حقيقة اخرى، ترتبط بشكل او باخر بطبيعة وفحوى توضيح الصحيفة وعدم ظهور بوادر عن نيتها تقديم اعتذار رسمي كما طالبت اوساط سياسية وشعبية ونخبوية عراقية، وبدلا من ذلك راحت بصورة غير مباشرة، تسوق كلاما غير مقنع، مفاده ان رسام الكاريكاتير المسيء للمرجع السيستاني، هو امجد رسمي الذي يحمل الجنسية الاردنية وينتمي للتيار السلفي، وان ما قام به لايعكس توجه وسياسة الصحيفة بقدر ما يعكس قناعاته واراءه الشخصية، علما انه حتى غير المختص بالعمل الاعلامي، ربما يعرف ويدرك انه وفقا للسياقات والاليات المهنية، من غير الممكن لاي وسيلة اعلامية-صحيفة كانت ام وكالة انباء ام قناة تلفزيونية-نشر وبث اي مادة، دون اخضاعها للتدقيق والمراجعة والفحص من قبل اكثر من حلقة، للتأكد من انسجامها مع سياسات تلك المؤسسة الاعلامية وعدم تقاطعها مع الاطر والتوجهات والمواقف العامة للجهة الراعية والممولة، مهما اتسعت مساحة المرونة والمهنية لديها، ولاشك ان الاعلام السعودي الرسمي، وكذلك الاعلام غير الرسمي الممول يخضع لضوابط صارمة في النشر والترويج، ولاشك ان "الشرق الاوسط" ليست استثناء من ذلك، بل ان كل ما ينشر فيها من اخبار وتقارير ومقالات وصور محسوب بدقة كبيرة، ولايمكن لعاقل ان يقبل يمنطق ان رساما اجتهد وقرر ان يرسم تخطيطا كاريكاتيريا يسيء لاكبر مرجع ديني، ويمرره للنشر في الصحيفة دون ان يكون هناك ضوءا اخضر من احد مفاصل ادارة تحرير الصحيفة.
ولعل التصور الاقرب الى الواقع، هو ان صناع القرار السياسي واصحاب السلطة في الرياض، ارادوا ان يوجهوا رسائل معينة من خلال الرسم الكاريكاتيري المسيء، كما فعلوا في مناسبات سابقة، وكما فعل غيرهم عبر وسائل اعلام اخرى مثل الحرة الاميركية او او .. لكنهم لم يدركوا انه بحسب تجارب الماضي، لم تعد مثل تلك الاساليب تجدي نفعا، ان لم تعد بالضرر عليهم، ولم يدركوا ان المراجعة الشاملة، واعادة النظر في المواقف، والعمل على تصحيح المسارات الخاطئة هو الافضل والانجع لهم قبل غيرهم، وهو ما عليهم ان يفعلوه بدلا من السعي لاقناع السذج بأن الرسم الاردني امجد رسمي هو المسؤول، او حتى رئيس التحرير، الاعلامي اللبناني غسان شربل، فهذه اسماء تؤدي وظائفها وادوارها ومهامهما وفق سياقات واضحة ومشخصة دون ان يكون مطلوبا منها او مسموحا لها ان ترسم سياسات وتحدد مسارات.