في بلد متعدد الاديان والطوائف والمذاهب والمكونات - كالعراق - من الطبيعي ان تبرز جملة اشكاليات اجتماعية او سياسية او حتى ثقافية بين الاقطاب المشكّلة للفسيفساء المتنوع لساكني خارطة البلاد ، لكن من غير الطبيعي ان تخضع بعض هذه المكونات لعقود طوال لظلم متعمد واجحاف مريب جراء جملة اعتبارات واسباب غير موضوعية.
فلكل مكون من مكونات شعب العراق هوية يعتز بها كونها تمثل جذوره الضاربة في عمق ارض آبائه واجداده. وهنا تكمن اهمية هذه الهوية في تعريفه للاجيال وضمان حق المواطنة لديه فضلا عن الحفاظ على حقه المشروع في صنع القرار بالبلاد.
فالمتطلع لتاريخ المكون الكردي الفيلي يلمس بوضوع ارتباطه بجذوره الضاربة في عمق التاريخ والتي لا تحدها حدود فرضتها الانظمة السياسية بالوقت الراهن. فالى جانب تشعب اماكن سكنى هذا المكون في مناطق عديدة وامتدادات واسعة تبقى بغداد الحب والسلام تلك الأم الحنون التي احتضنتهم في كرخها ورصافتها واصبحت هويتهم التي يتغنون بجمالها وعذوبة دجلتها وصفو عيشها قبل ان تحل عليها وعليهم وعلى جميع العراقيين نازلة البعث الشوفيني التي نسفت وحطمت كل شئ قبل ان تصادر كرامة الانسان وحاضره ومستقبله.
فالمؤرخون والروائيون ما انفكوا يستذكرون كل بقعة بغدادية احتضنت الفيليين كغيرهم من شرائح المجتمع البغدادي على مدى عقود لا تحصى.
فها هي مناطق العاصمة الاصيلة كالفضل والمهدية وقنبر علي وابوسيفين ومحلة بني سعيد ودربونة العانة وعكد الأكراد ومحلة القشل ثم الصدرية وباب الشيخ ورأس الساقية وفضوة عرب والفناهره والتسابيل وغيرها تحكي ارتباط الفيليين باهلهم البغداديين سنة وشيعة واديان اخرى لتجمعهم هوية واحدة وعيش بسيط ومشترك.
كل هذا كان قبل ان تحل على العراق وشعبه لعنة البعث الاسود التي اتت على الحرث والنسل لتجعله هباء منثورا وتعصف بالمجتمع المتصاهر المتآخي كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف. فكان القرار المشؤوم الصادر عن ما يسمى بمجلس قيادة الثورة الظالم لتتعرض هذه المناطق الشعبية البغدادية الرائعة إبان السبعينيات من القرن الماضي إلى أشرس حملة تطهير من قبل السلطات لينطلق معها قطار التهجير الظالم والاعتقالات التعسفية والتسفير القسري والحجز الاجباري ونشر الرعب. ولم يقف الامر عند هذا الحد ليتم استئنافه في موجة مماثلة وظالمة اخرى مطلع الثمانينيات طالت هذا المكون المسالم الذي لم يكن له جرم الا الانتماء لهذه الارض المقدسة الطاهرة.
لكن عصابة البعث كانت قد وجدت لنفسها ذريعة باطلة وتهمة جاهزة لتبرير فعلتها الشنيعة حيث الصقت بالكرد الفيليين تهمة عدم الانتماء للعراق زورا وبهتانا.
المسلسل التراجيدي هذا لازال يوخز الضمير الحي كونه انطوى على ابشع الممارسات التترية والنازية والشوفينية والارهابية بحق مكون مسالم وطيف اصيل من اطياف شعب هذه الارض بغير وجه حق.
والا كيف بالامكان تفسير اصدار ما يسمى بمجلس قيادة الثورة المنحل قرارا يقضي بالتفريق بين الأزواج وزوجاتهم ومصادرة أملاكهم المنقولة وغير المنقولة؟ واي شريعة سماوية سمحاء تبيح اطلاق عمليات التطهير العرقي بهذه الصورة البشعة؟ وما مبررات التغييب القسري مع السجن السياسي ومن ثم المقابر الجماعية وغيرها من الممارسات اللااخلاقية المجحفة التي مورست ضد الكرد الفيليين في صورة يندى لها جبين التاريخ؟ واخيرا.. باي حق يمنح احد لنفسه اقتلاع مكون كامل من جذوره ورميه ما وراء الحدود يجابه مصيره المجهول وسط صمت دولي مطبق؟
ثم يضاف سؤال آخر: بعد هذا العرض الوجيز هل بقي من شك في ارتباط المكون الفيلي الوثيق ببغداد والعراق؟
خاتمة القول: ان المكون الفيلي احدى اهم مكونات هذا الشعب المتآخي المتصاهر والمتعايش ، وليس من حق اي احد سلب حقوقه المشروعة ، وان الوقائع - في العراق الجديد ما بعد 2003 - اثبتت امكانية المكون الكردي الفيلي على لعب دور بارز في الحفاظ على مصلحة الوطن والمساهمة في صنع القرار مهما اشتدت المحن وتعسرت الظروف.