في العام 1987 وصل إلى دمشق مبعوث خليجي خاص يحمل رسالة مهمة من قيادة بلده لتسليمها إلى الرئيس حافظ الأسد.
يروي المبعوث الخليجي في مذكراته ما دار خلال لقائه بالرئيس الأسد قائلاً: بعد أن انتهيت من تسليم الرسالة قلت له باستحياء: سيادة الرئيس هل تسمح لي بسؤال يحيرني دائماً؟
وعلى الفور أجابني الرئيس حافظ الأسد قائلاً: سل ما تريد.
قلت سيادة الرئيس من المعروف عنك شخصياً عروبتك وقوميتك العميقة ولكن ما يحيّرني منذ سنوات هو كيف تصف كقائد عروبي قومي حريص على الأمن القومي الوقوف مع "الفرس" ضد العرب في الحرب العراقية الإيرانية؟
حينها تبسم الرئيس الأسد وأجابني: وهل تعتقد حقاً بأن الحرب الدائرة بين العراق وإيران هي حرب "عربية فارسية"؟
هذه الحرب لا علاقة للعرب ولا للعروبة بها وعليكم أن تدركوا أن هذه الحرب هي حرب صدام حسين الشخصية، وإنها تجري على حساب العرب والعروبة ضد ثورة إيرانية وليدة انتقلت بإيران من خانة التبعية لأميركا وإسرائيل إلى خانة العداء لهما، وفور الانتهاء من هذه الحرب سوف ينقلب صدام حسين على داعميه من العرب ليكمل حربه الشخصية على الدول الخليجية وتحديداً دولة الكويت غير آبه لا بالعرب ولا بالعروبة، وختم الرئيس حافظ الأسد قائلاً: إن التاريخ أنصف حرب الحقوق الإنسانية المهدورة وقدس حروب تحرير الأرض من احتلال غاصب، لكن التاريخ أخبرنا بأن أي حرب شخصية هي حرب خاسره كونها حرب تحقيق أمجاد شخصية على حساب المصلحة الوطنية فتصبح حرباً عبثية تدميرية تسهم في تفكيك البنية الداخلية لأنها حرب لأهداف شخصية خالية من أهداف وطنية.
هنا أكتفي بهذا القدر من سرد رؤية صائبة لقائد عربي قومي إستراتيجي لأن التاريخ لما يزل شاهداً على صوابية وصحة ما تفضل به حافظ الأسد ولتبيان مدى تحول الأمور في سورية.
وبالإقرار بقراءة حافظ الأسد للتاريخ قراءة صحيحة أجد نفسي انتقل إلى قراءة تكميلية للتاريخ الصحيح اعتمدها الرئيس بشار الأسد حين وصف العلاقة مع الشعب التركي هي علاقة الأشقاء نظراً للاختلاط والمصاهرة القائمة بين الشعبين السوري والتركي مركزاً بأن ما تشهده العلاقات التركية السورية هو نتاج أوهام أردوغان الشخصية ولا علاقة لسورية بما هو حاصل لأن سورية تخوض حرباً وطنية تحريرية من إرهاب مستورد ومن عدوان أردوغاني.
إن تمسك الرئيس بشار الأسد بالعمق التاريخي لسورية جعل من سورية العروبة عصية على مؤامرة كونية أميركية إسرائيلية أوروبية عربية أوكلت مهمة تنفيذها إلى الرئيس التركي رجب أردوغان.
إن صمود سورية الأسطوري لم يأت من فائض قوة إنما صمود سورية بشار الأسد كان ولا يزال نابعاً من عقيدة وطنية ثابتة تنطلق من التمسك بالهوية العربية للجمهورية العربية السورية والحفاظ على وحدة الأرض السورية وتحريرها من الاحتلال ومن الإرهاب مهما كلف من تضحيات الأمر الذي يقود سورية إلى الانتصار الذي بات قريباً.
إذاً تساقطت رموز المؤامرة الكونية على سورية الواحد تلو الآخر وتنصل معظم المتآمرين من مسؤولية دعم الإرهاب الذي هدر دماء السوريين وعمل على تشريدهم فيما بقي رجب أردوغان وحيداً يقود حربه الشخصية ضد سورية هدفها تحقيق أمجاد سلطنة شخصية.
وبما أن التاريخ والرئيس حافظ الأسد أخبرنا سلفاً بنتائج أي حرب شخصية، جاءت قراءة الرئيس بشار الأسد استكمالاً واحتراماً للتاريخ بأن ما تبقى من حرب كونية على سورية أضحت حرباً أردوغانية شخصية خاسرة.
لقد أشبعت القمة الروسية التركية تفصيلاً وتمحيصاً وهي مليئة بالتكهنات والتوقعات من مختلف المراقبين ولن أزيد على ما أفاض به البعض لكن الثابت هو اختفاء صراخ وعويل أردوغان الذي وصل صداه إلى واشنطن وأوروبا والناتو مستنجداً.
لم يتسن لأردوغان في الكرملين عرض عضلاته وبخاصة في ظل القواعد الجديدة التي رسم معالمها الجيش العربي السوري مدعوماً من حلفاء سورية في منطقة سراقب التي أصابت العدو الإسرائيلي بالصدمة والهيستيريا جراء استعادة السيطرة على المدينة بعد أن كان العدو الإسرائيلي حاضراً ومشاركاً في معركة سراقب الاستراتيجية.
الرسالة الروسية وصلت إلى الرئيس التركي قبل يومين من مجيئه إلى موسكو من وزارة الدفاع الروسية وكانت شديدة اللهجة واضحة المعالم. أصابع الاتهام وجُهت بشكل مباشر إلى الجانب التركي. إذ إن ما فعله الجيش العربي السوري خلال أيام معدودة لم تفعله تركيا منذ توقيعها اتفاق سوتشي الشهير بمعنى أن أردوغان شخصياً يتحمل مسؤولية التلكؤ في تنفيذ الاتفاقات ومآلات الأمور في تلك البقعة من الجغرافيا السورية.
بيد أن تعزية الرئيس بوتين بمقتل الجنود الأتراك لم ترق كثيراً للرئيس أردوغان، خصوصاً أن بوتين كرر على مسامع أردوغان أن تواجد القوات التركية ضمن مراكز التنظيمات الإرهابية هو عمل غير مفهوم.
بوتين ذهب بكلامه أبعد من ذلك، مذكراً بأن الوضع في إدلب أصبح على حافة الهاوية بسبب انتهاكات الجماعات الإرهابية لكل التوافقات السابقة مع القيادة التركية التي لم تشأ فعل شيء لتغيير الوضع على الأرض، وروسيا على بينة من ذلك. ولهذا أكد بوتين لنظيره التركي ضرورة إيجاد حل سريع لكيلا يحدث الانفجار الكبير.
بوتين كان واضحاً بأن موسكو لن تساوم على المعادلات الجديدة التي رسمها الجيش العربي السوري على الأرض في منطقة إدلب وسراقب.
ست ساعات، قضى نصفها بوتين وأردوغان وجهاً لوجه. والنتيجة كانت إقرار أردوغان بالوضع الجديد، بما في ذلك سيطرة الجيش السوري على الطريقين الدوليين «إم 5» و«إم 4».
انتهت القمة الروسية التركية التي أجهضت عملية «درع الربيع» بعد توقيع أردوغان اتفاقاً بوقف شامل لإطلاق النار، وإقراره بخطوط تماس جديدة، تاركا نقاط المراقبة التابعة له محاصرة من الجيش العربي السوري.
الأمر الوحيد الذي أبقى أردوغان إزاءه الأبواب مشرعة هو مسألة اللاجئين التي ستبقى موضوعاً للمقايضة مع الأوروبيين كلما وجد نفسه محشوراً في الزاوية. أي إن أردوغان الذي يخوض حربه الشخصية الخاسرة في سورية لم يبق لديه سوى الانقلاب على داعميه الأوروبيين من خلال ورقة النازحين نحو أوروبا.
أردوغان غادر موسكو كما قدم إليها من دون ابتسامة تذكر على وجهه مزوداً بارتباك واضح على ملامحه وبلغة الجسد التي أفصحت عن مدى الارتباك والضياع الذي أصابه حين تقدم من وزير خارجيته مصافحاً ظناً منه أنه يصافح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف.
إذا عاد أردوغان من موسكو حاملاً معه أحلام عملية «درع الربيع» الخائبة، التي لم تمنحه نشوة نصر كان يأمله بإعادة الجيش العربي السوري إلى الخلف. ولهذا فهو يستعد لجولة مقبلة في معاركه السياسية الداخلية التي تهدد بنيته وانفكاك قبضته على المؤسسة العسكرية الأمر الذي سيدفعه إلى ارتكاب المزيد من حماقات حرب شخصية ينكث فيها كل تعهداته التي قطعها على نفسه في موسكو لينتهي به الأمر إذا ما بقي في موقعه بتوقيع وثيقة جديدة أخرى في موسكو تثبِّت سيادة السوريين على كامل محافظة إدلب على كامل الجغرافيا السورية.
إنها الهدنة بين حرب وطنية رابحة وبين حرب شخصية خاسرة آتية