الصفحة الرئيسية / في رحاب مكة المكرمة: فقدان الاحبة - قدر وعبرة

في رحاب مكة المكرمة: فقدان الاحبة - قدر وعبرة

خلال اقل من ثلاثة اشهر ، فقدت ثلاثة من اعز الناس لي، الاول كان العم علي رضا الذي كان له حصة الأسد في تربيتي منذ صغري، كان رجلاً شجاعاً وحكيماً وقد تحمّل عبءالعائلة الكبيرة مع أخيه الأكبر والدي المرحوم الحاج عبد الرحيم الفيلي، الفقيد الثاني كانت والدتي العزيزة الحاجة ام عبد "دا" الفيلي، واحة من العز والحنين وقامة مجتمعية ومرجعاً روحياً للكل، وأخيراً قبل أيام قليلة فقدت اختي الكبيرة الحاجة ام مازن "رسمية"، تلك السيدة الفاضلة الزكية الذكية العفيفة المثابرة المعروفة بسعيها للخير.
جميعهم ذهبوا ضحية ذلك المرض الخبيث، ابعد الله عنا وعنكم شره، انه قضاء الله وقدره، فهل من معتبر.

 توفوا بين أهليهم وأحبائهم، وأُجريت لهم مراسم العزاء وعلى أتم وجه والحمد لله. ابناء الجالية العراقية والأرحام من خارج بريطانيا وفدوا ليشاركونا العزاء، فهو عزاؤهم لا عزاءنا نحن فقط، وذلك لان هذه الشخصيات لم تنطوِ على نفسها، او تعيش على هامش المجتمع، بل دخلت اليه من اوسع ابوابه في مجالات مختلفة، في خدمة ابناء المجتمع، وفي السعي لبناء جيل جديد قوي مُحصن من الانحراف قوي بإيمانه وإنسانيته.

مع فقدان الاحبة ومغادرتهم إيانا، يأتي السؤال ما هو الموت يا ترى؟ يصف الكاتب والاعلامي عبد الحميد الصائح في مقال له (الموت) بانه "أشهر حدث حتمي مرتقب يختتم سيرة اي كائن في الوجود بعد حدث ولادته. مصير لا يوقفه طب ولا تؤجله ثروة ولا تغير وجهته صناعة ولا تحتاط منه اعظم قوات الحماية. ففي الوقت الذي نعرفه جيدا وننتظره جميعا ترانا نتعامل معه على انه صدمة ومفاجأة وشيء غير معقول! ، لاسيما وان حدوثه غير مرتبط بزمن أو عمر او حدث محدد كالحرب أو السلم."

نعلم ان الموت حق كما يقولون، ولعل مقولة الإمام الصادق(ع):"لم يخلق الله عز و جل يقيناً لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت" ليست ببعيدة عن خواطرنا، نأمل دوماً ان لا نرى الموت او نتعامل مع تبعاته، هو ليس بصديق، بل غريم ونذير لكل واحد منا، نفكر دوماً ماذا لو فقدنا عزيزاً، ولكن قلما نفكر بان هذه الحتمية ستشملنا ايضاً، او انها قد تأتي من دون سابق انذار او إشارة، علماً بأننا استلمنا الاشارات كثيراً ولكن اخذتنا الغفلة، ونسينا ان كلا منا مسؤول امام خالقه عن نفسه فقط.

هذا الحق لا شك فيه، ولا تردد فيه، فهل نحن مستعدون له؟ ذلك الاستعداد لا يأتي من فراغ، بل من استعداد نفسي ومعنوي وقد يقول الاخر استعداد مادي ايضاً. وان كنا على استعداد فهل هيأنا متاعاً لهذه المسيرة الغامضة، بتصفية ديوننا المادية والمعنوية اولاً ومن ثم السير بمسيرة برزخ، ومنكر، ونكير، وغيرها من محطات ما بعد رحيل الروح من الجسد.

ماذا عن الاطراف الاخرى في المشهد؟ ماذا عن هؤلاء الاصدقاء او المعارف الذين اغتبناهم في يوم ما، او اخذنا منهم ما هو ملكهم، او رفضنا طلبهم ومساعدتهم عندما كنا قادرين عليها؟ هل صفينا او صفّرنا حساباتنا مع الاخر لكي ندخل نفق الموت ونحن نعرف انها ستكون نيرة وليست مظلمة؟ وهنا يأتي السؤال عن كيفية معرفة درجة انارة النفق "طريقنا الجديد والحتمي" ومستوى مراجعتنا وعمق تفكرنا، يا له من مستقبل موحش.

وقد تفكر ايضاً وتقول مع نفسك، هل نريد ان يتذكرنا الاخر بالخير بعد موتنا؟ اذ ترجو ان لا ينحصر ذكرهم لنا فقط في الفاتحة او مراسم العزاء؟ وما ضريبة تذكرهم لنا، اي شيء علينا ان نفعله ونستبقه ليتذكرنا الاخر بالخير خارج نطاق العرف والتزاماته؟ وهل ستكون مقولة "لم نعرف عنه الا خيراً " كافية؟ ام هي لقلقة لسان ليست الا، ذلك اللسان الذي قد لا يعكس ما في القلب من احاسيس او مشاعر تجاهنا.

وماذا عن مرحلة الموت من دورة الحياة والوجود؟ هي اخر مرحلة في دورة الدنيا والتي ابتدأت بالمهد وانتهت باللحد. اللحد، ذلك السرير الابدي لأجسادنا، ما اريحه اذا كنا على حسن سريرة، وما اوحشه واقبحه اذا كنا عالة على المجتمع. هناك لباسنا ليس من حرير ولا من ماركات متميزة، هو للغني والفقير سواسية، ثوب ابيض ليس فيه الوان زاهية، وغرفة مظلمة تحت الارض يضعنا احبابنا فيها. ما اقساك يا دنيا وانت تودعين ارواح الاحبة وتتقبلين بسهولة ضيافة اجسادهم من دون مبالاة او احساس لمشاعرنا. آه يا دنيا ما اقساكِ، دورة حياة بدأت بخلقنا من طين ورجعنا الى حضنها مدفونين، نسأل الله تعالى حسن الخاتمة؟

وماذا عنا نحن الأحياء وقد رحل الاحبة عنا؟ ولعلهم لم يرغبوا ان يرحلوا عنا لحبهم لنا، ونحن لم نريد ذلك لهم ايضاً لأنانيتنا او لحاجتنا لهم بقربنا رغم يقيننا ان الموت لهم راحة وخصوصاً مع التصاق مثل هذه الأمراض الخبيثة بهم، انه القدر، انها الحقيقة، انها اخر محطة حتمية في دورة الحياة لهذه الدنيا الفانية.

اسئلة تخطر على البال عندما تمر بجانب مقبرة، او تستحضر فقيد، او تسمع هنا او هناك بوفاة شخصية تعرفها. فهل من مذّكر؟ من جانب اخر ترانا لا نكترث كثيرا للموت، ربما لأننا نتجه لرب رحيم تطمئن له القلوب، كيف لا والرحمن يقول في محكم كتابه الكريم :-
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيْمِ
((يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِ))
صدَقَ الله العلي العَظِيم

هل نستطيع ان نختصر العبرة ونقول ان استمرار فقداننا للأحبة اصبح مع الزمن محطة مهمة وضرورية للمراجعة لمن يريد ان يتعظ ويستبق الاحداث، فهل من مذّكر؟

انه عام حزين عليّ وعلى اهلي، لا اعتراض على امر الله، اللهم ارحم ارواح والدتي وعمي وأختي، وارواح موتانا وموتى المسلمين وأغفر لهم وتغمدهم برحمتك الواسعة..اللهم اعوذ بك من عذاب القبر وفتنته وغربته ووحشته وظلمته وضيقه وضنكه، اللهم آمين يا رب العالمين.

لقمان عبد الرحيم الفيلي
مكة المكرمة -
15-08-2019, 01:22
العودة للخلف