ضياء أبو معارج الدراجي _
حين نطق أراس حبيب أمام سحر عباس جميل بالحقيقة التي يخشاها الجميع، قامت الدنيا ولم تقعد. لم يقل الرجل سوى ما يعرفه كل عراقي ويمرره همسًا بين جدران بيته: أن الأغلبية الشيعية هي قلب العراق النابض، وأن الدولة لا يمكن أن تُدار بعقلية الأقلية ولا بوصاية الخارج، بل بإرادة من قدّم الدماء وحمى الأرض والعرض.
لكنّ جيش النفاق لا يحتمل الحقيقة، لأنهم يعيشون على الأكاذيب التي يطبخونها كل يوم على نار المصالح. فبدل أن يواجهوا الفكرة، هاجموا صاحبها. أطلقوا عليه التهم المعلّبة: "سكران"، "متحرش"، "سابّ"، "متطاول"، وكأنّهم عثروا على كنزٍ يُنقذهم من مواجهة الواقع. لم يدركوا أن الرجل لم يكن إلا مرآةً عاكسةً لما في صدورهم من عقدٍ دفينة، فارتدّ صراخهم عليهم كصفعةٍ منطقية في وجه الزيف.
تحركت صفحات "المدنية" المصطنعة ومنصات "الوطنية حسب الطلب"، لتقود جوقة الردح والنياحة السياسية. مشهدٌ يُثير الشفقة قبل الغضب: من يرفع شعار الحرية هو أول من يخنقها، ومن يتشدّق بالتمدن هو أول من يلوّح بعصا التكفير والإلغاء.
أما الفريق الحكومي، فلم يخرج عن السرب؛ فقد ضاق صدره بكلمة أراس عن استبعاد الولاية الثانية لرئيس الحكومة، وكأنّها مسّت عرشًا مقدسًا لا يُنتقد. فهم يعرفون أن ما قاله ضرب في الصميم: أن الولاية الأولى كانت مليئة بالقرارات المرتجلة، أثقلت كاهل المواطن، وارتدت عليه بارتفاع الأسعار وضياع الخدمات وتكميم الأفواه.
غضبوا لأن الحقيقة وجعتهم، وسارعوا إلى إغلاق الصفحات التي انتقدت إخفاقاتهم، وكأن حذف منشور سيمحو الجوع من موائد الناس أو يمسح خيبة الشارع. شعارهم "الإصلاح"، وواقعهم "إصلاح الجيوب". والويل لمن يجرؤ على تذكيرهم بأن الفساد لا يُغسل بخطب الجمعة ولا يُنسى ببيانات الشكر.
ولم يغب عن المشهد الجوق المنافق الذي يعزف على وتر “تغيير النظام” كلّما غيّرت أمريكا سفيرها أو أرسلت مبعوثًا جديدًا لبغداد. أحلام اليقظة لا تفارقهم، يتوهّمون أن التغيير سيهبط عليهم بمظلةٍ أميركية تحملهم إلى كراسي الحكم، متناسين أن بعضهم عليه ملفات فساد وإرهاب تكفي لمدّ أعناقهم إلى حبال المشانق لو فُتحت التحقيقات بجدّية. ومع ذلك، يطلّون على الناس بوجه "المنقذ"، يتحدثون عن الديمقراطية وهم عاجزون عن إدارة صفحةٍ في وسائل التواصل دون أن يختبئوا خلف أسماءٍ وهمية.
أما من يدّعون الحرية والتمدن، فحدّث ولا حرج. أولئك الذين يبيعون المحاضرات عن الديمقراطية في النهار وضد المرجعية الشيعية ،بينما يقفون في الليل طوابيرَ خضوعٍ أمام بوابة أردوغان، يقدمون له الولاء كأنه "خليفة المسلمين"، دون أن يجرؤ أحدهم على انتقادهم أو مساءلتهم على خيانتهم.
هؤلاء بالذات يُهاجمون كل من يتكلم بصدق عن واقع العراق، لأن الصدق يُربك مشاريعهم، والحقيقة تُفسد تجارتهم في سوق النفاق المفتوح على مدار الساعة.
وما بين هؤلاء جميعًا، تبقى المرجعية العليا في النجف الأشرف البوصلة التي لا تنحرف، والصوت الذي لا يخفت مهما تعالى الضجيج. لكنّ من لا يعرفها — من غير مقلدي السيد السيستاني حفظه الله — يتخذ من جهله سلاحًا للطعن بها، مدّعيًا أنها لا تستقبل السياسيين، وكأن الدين يقاس بمواقيت الزيارات.
الحقيقة أن كل قادة الشيعة ملتزمون بما تصدره المرجعية من توجيهات وفتاوى، وفي مقدمتها فتوى الجهاد الكفائي التي أنقذت العراق من السقوط يوم هرب من يدّعون الوطنية إلى حضن الفنادق. المرجعية ليست ولاية فقيه على الطريقة الإيرانية، بل هي مرجعية عراقية خالصة، تصدر الفتوى فينحني لها الجميع احترامًا لا خوفًا، لأنها ترى أبناءها متساوين في الانتماء والمسؤولية.
ولعلّ مشهد مجلس عزاء عقيلة المرجع الأعلى قبل أيام كان كافيًا لتذكير الواهمين بأن المرجعية بيتٌ للجميع، وأن أبناء المرجع استقبلوا المعزين — ساسةً ومواطنين — بلا حواجز ولا استعلاء، لأن المرجعية تجمع ولا تُفرّق، وتحتضن الوطن كله، لا فئةً دون أخرى. فدعوا أوهامكم يا من تتكلمون عنها من خلف الشاشات، فنحن نعرفها كما نعرف العراق: لا تنام عنه، ولا تنحاز إلا له.
إن الحملة على من قال الحقيقة لم تكن سوى مرآةٍ كشفت قبح النفاق الذي يتقن التمثيل ولا يحتمل الواقع. في هذا البلد، أصبحت الحقيقة جريمة، والنفاق وسيلة عيش، والسكوت مهارة بقاء. لكن رغم كل ذلك، ستبقى الحقيقة تُقال، لأن صوتها — وإن خنقوه مؤقتًا — سيظلّ أعلى من أبواقهم، وأصدق من خطاباتهم، وأبقى من كذبهم جميعًا.
ضياء أبو معارج الدراجي