×

أخر الأخبار

قزانية.. البلدة الحدودية التي تحمل ذاكرة الفيليين وتاريخ التهجير

  • 31-08-2025, 12:53
  • 458 مشاهدة

تحقيق: ايناس الوندي

على بُعد كيلومترات قليلة من الحدود العراقية الإيرانية، تقبع بلدة قزانية، الناحية التابعة لقضاء مندلي في محافظة ديالى. منطقة تحمل في جغرافيتها حدوداً رسمية، وفي موروثها الاجتماعي حدوداً متكسرة تتخطاها الأواصر العائلية واللغوية، في تمازج ممتد منذ قرون. لكن خلف هذا المشهد الهادئ، تختبئ قصة تاريخية شائكة، عنوانها التهجير، الهوية، والانتماء.
خارطة المكان.. حيث تبدأ الحدود ولا تنتهي العلاقات
تقع قزانية في أقصى الشرق العراقي، عند إحداثيات تقارب (33.71 شمالاً، 45.55 شرقاً)، في قلب حوض مندلي الذي يجاور جبال حمرين، ويشكّل شريطاً حدودياً طويلاً مع إيران. هذا القرب الجغرافي لم يكن مجرد حدود مرسومة على الخرائط، بل بوابة تواصل اقتصادي واجتماعي وثقافي امتد لعقود، بل لقرون.
القرى الواقعة شرق قزانية لا تفصلها عن الجانب الإيراني سوى بضعة كيلومترات، حيث ترتسم حياة متداخلة بين العشائر والقبائل التي حافظت على روابط الدم والمصاهرة رغم قسوة الجغرافيا والسياسة.

ذاكرة التاريخ.. من السهل الزراعي إلى سياسات الاقتلاع
تاريخ قزانية جزء من تاريخ ديالى الشرقي، منطقة عُرفت بالزراعة وتربية المواشي منذ القدم، مروراً بالعهد العثماني والانتداب البريطاني، وصولاً إلى العراق الحديث. لكن منتصف القرن العشرين كان نقطة تحوّل مأساوية للهوية الديموغرافية، خاصة للكورد الفيليين الذين يُعتبرون أحد أقدم مكونات المنطقة.
في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، عاش الفيليون أكبر موجة تهجير قسري، حين تم تجريد عشرات الآلاف من الجنسية العراقية، ومصادرة أراضيهم، وإبعادهم إلى إيران. حملات استهدفتهم تحت ذرائع سياسية وقومية، لأنها رأت في هذا المكوّن خطراً مزدوج الانتماء.
من هم الفيليون؟
الفيليون هم الكورد الأصليون ، ينتمون إلى اللهجات الكوردية الجنوبية ذات الجذور الإيلامية. يتحدثون بلهجة مميزة، تحمل بصمات من اللغات الفارسية واللورية، ويُعرف عنهم اعتناق المذهب الشيعي، ما جعلهم في مرمى استهداف مضاعف خلال حقب سابقة.

في قزانية، يحتفظ الفيليون بخصوصيتهم الثقافية رغم التداخل السكاني، ولا تزال لهجتهم علامة فارقة في القرى الشرقية حيث تُتداول كلمات ممزوجة بتأثيرات عربية وفارسية، في سياق يومياتهم.
كم يبلغ عددهم في قزانية؟ لغز بلا إجابة رسمية
لا توجد إحصاءات رسمية حديثة تكشف العدد الدقيق للفيليين في قزانية، لكن المؤشرات الميدانية والتاريخية تضعهم في قلب النسيج الاجتماعي، خصوصاً في القرى المحاذية للحدود. تقديرات غير رسمية ترجّح أن نسبتهم في الريف الشرقي قد تتراوح بين 30% إلى 60%، بينما تنخفض النسبة في مركز الناحية الحضري إلى 10–30% فقط.

هذه الأرقام، رغم عدم رسميتها، تعكس حقيقة ثابتة: الفيليون في قزانية ليسوا أقلية عابرة، بل جذور راسخة في الأرض، رغم ما واجهوه من اقتلاع قسري في عقود مضت.

اللغة والهوية.. لهجة تحفظ ذاكرة القرون
اللهجة الفيلية التي ينطق بها سكان قزانية تمثل فرعاً من الكوردية الجنوبية، بمفردات غنية بالتأثيرات الفارسية والعربية. وهي أكثر من وسيلة تواصل؛ إنها شيفرة هوية متوارثة، تنتقل في الأحاديث اليومية وفي طقوس الزواج والمناسبات، لتربط الحاضر بالماضي، وتعيد إنتاج الانتماء رغم التهجير.

روابط لا تفكّها الحدود
شبكات القرابة التي تجمع فيليي قزانية بأقرانهم في إيلام وكرمانشاه الإيرانية ظلت أقوى من القرارات السياسية. المصاهرة وتبادل العمل والتجارة عبر المنافذ الرسمية وغير الرسمية أبقت هذه العلاقات حيّة، حتى بعد موجات التهجير القسري.
ما بعد التهجير.. جراح معلّقة وأسئلة مفتوحة
اليوم، وبعد مرور عقود على حملات الترحيل، ما زالت بعض العائلات الفيلية في قزانية تواجه مشاكل في استعادة ملكياتها، أو تثبيت أوراقها الثبوتية. جهود إعادة التسجيل ومنح الجنسية مستمرة، لكن الطريق طويل، وسط غياب الإحصاءات الدقيقة، وندرة التمثيل السياسي لمناطقهم.

ختاما : قزانية ليست مجرد ناحية حدودية؛ إنها مرآة لصراع الهوية والذاكرة في العراق. هنا، حيث تختلط اللهجات، وتتشابك الأعراق، يبقى الكورد الفيليون شهوداً على قصة لم تكتمل، بين أرض لم تغادر قلوبهم، وهوية لا تزال تبحث عن اعتراف كامل.