بغداد .ايناس الوندي
أطلقت الكاتبة الفيليّة أفين إسكندر مجموعتها القصصية "ثلاث عشرة مرة مت فيها" عن دار "منشورات جاجامش" في بغداد، ضمن تجربة سردية فريدة تمزج بين الحكي الفني والتوثيق التاريخي والنبش في الذات الفردية والجمعية للكورد الفيليين، وهم أحد أبرز المكوّنات العراقية التي تعرضت للتهجير والاضطهاد خلال حقب سياسية متعددة.
وجع جماعي في قالب قصصي
تتكوّن المجموعة من ثلاث عشرة قصة قصيرة، تصاحبها مقدمة وتمهيد يعكسان توجهًا أدبيًا عميقًا نحو إعادة قراءة الماضي بعين الذاكرة الجريحة، حيث ترتكز كل قصة على بؤرة مركزية تُظهر تراجيديات التهجير والقتل والسجن والاضطهاد، دون الحاجة إلى التصريح الزمني المباشر، بل عبر إشارات وإيحاءات ترسم لوحة متكاملة للمعاناة.
العناوين... ومضات حزينة ومفتوحة على التأويل
عناوين القصص مثل: باب الرحمة، دميني، شِفاه مغلقة بالدم، النافذة التي لا تُفتح، في الضلوع فقمة، الطائر المقتول، توابيت وحلم، تشكل مدخلاً نفسيًا ووجدانيًا للقارئ وتدفعه للغوص في سرديات مليئة بالأسى والأسئلة المعلقة، حيث يتجاور فيها الحُلم مع الكابوس، والجمال مع العنف، والأنثى الطافحة بالحياة مع ذكريات القمع والحرمان.
سرد لا يهادن... بل يُدين
القصص – رغم أنها لا تذكر التواريخ صراحة – إلا أن إشاراتها توحي بأنها تتناول أحداثًا وقعت في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، إبان حملات التهجير القسري والإعدامات الجماعية التي نفذها النظام البائد ضد الكورد الفيليين. تذهب الكاتبة أبعد من السرد التقليدي لتُصدر حكمًا أدبيًا أخلاقيًا واضحًا بإدانة الوحشية الممنهجة التي مارستها الدولة العراقية بحق المكوّن الفيلي.
واقعية مفترضة مشبعة بالرمز
تؤسس أفين إسكندر لتيار قصصي يمزج بين الواقع والخيال المُعاش، عبر صور رمزية وشخصيات تواجه العنف بمشاعر صامتة لا تنكسر، بل تنسحب بهدوء إلى عالم الذات المحاصرة. كما تعتمد على ما يُعرف في الأدب بأسلوب "الاسترجاع الحر" و*"الفلاش باك"*، مستلهمة أساليب كبار كتّاب القصة الغربية كوليم فوكنر وجيمس جويس.
بين التنديد بالإرهاب وتعرية العقل المبرر للقتل
ترفض الكاتبة المفردات الإعلامية السطحية، وتغوص بعمق في تحليل البنية النفسية والإيديولوجية للإرهابيين والقتلة، موجهةً خطابًا ساخرًا مريرًا إلى "العقل الذي يبرر الجريمة" عبر مفردات تنسف المنطق وتحاكم التسويغات الأخلاقية المزيفة التي يحاول البعض تسويقها تحت عباءة الدين أو الدفاع عن القيم.
توثيق غير تقليدي للتاريخ العراقي
تُعد هذه المجموعة من أبرز الإسهامات الأدبية التي تحاول كسر نمطية السرد التاريخي التقليدي، حيث تقدم صورة فنية تُعيد بناء الأحداث من منظور الضحية لا المؤرخ. الكاتبة لا تكتفي بسرد المآسي، بل تحاكم الحدث من زاوية ضميرٍ حيّ، يجعل من كل نصّ شاهدًا إنسانيًا على مرحلة مفصلية في تاريخ العراق.
خلاصة:
في كتاب "ثلاث عشرة مرة متّ فيها"، لا تحكي أفين إسكندر قصصًا فحسب، بل تُخرج من ركام النسيان صوتًا فيليًا حرًا يرفض التهميش، ويعيد الاعتبار لذاكرة شعب مزّقته الحروب والقرارات السياسية الجائرة. إنها دعوة صريحة لاستعادة الهوية، والانتصار للحقيقة، ومواجهة الوحشية بفنٍّ يحاكي الإنسان في أكثر لحظاته ضعفًا وقوة.