خانقين – إيناس الوندي
في زوايا سوق خانقين القديمة، حيث تختلط رائحة الغبار بعبق الخبز والذكريات، يجلس رجل تجاوز السبعين من عمره، لكن قلبه لا يزال يضخ شبابًا. هو حجي محمد سعيد، المعروف لدى أهل المدينة باسم كاكه حمه، واحد من وجوه خانقين الأصيلة، التي عركتها الحياة فلم تُذلها، بل زادتها شرفًا وصلابة.
منذ ثمانينيات القرن الماضي، يعمر كاكه حمه سوق خانقين ببسطية بسيطة، يبيع فيها حاجات منزلية متنوّعة، من القداحات إلى البطاريات، من المفكات إلى الأكواب، وكل ما يحتاجه الناس في يومياتهم البسيطة. لا يملك رأس مال كبير، ولا يسعى وراء الثراء، بل يكتفي بـ"رزق قليل" كما يسميه، يحمد الله عليه، ويرى فيه بركة العمر.
“العمل شرف حتى لو بعت شاي بالشارع”
في حديثه المفعم بالصدق والبساطة، يحثّ كاكه حمه الشباب على العمل مهما كانت الوسيلة شريفة، قائلاً:
"ليش تقعد تنتظر؟ اشتغل، بيع ماي، بيع شاي، اشتغل بأي شي، بس لا تمد إيدك. الرزق يجي، بس لازم تسعى إله."
يرى أن كرامة الإنسان في عمله، لا في ما يملكه. ويحاول دائمًا أن يزرع هذه الفكرة في عقول كل من يمر ببسطته، خصوصًا الشباب العاطلين عن العمل. يؤمن أن الكفاح "جهاد"، وأن الكسل "خذلان".
ذاكرة السوق وحارس الحياء
كاكه حمه لا يبيع فقط. بل هو جزء من الذاكرة الشعبية للسوق، يعرف وجوه الناس، ويحفظ همومهم. يسأل عن الغائب، ويطمئن على المريض، ويفرح لنجاح ابن الجيران كأنه أحد أولاده. يبتسم دائمًا، حتى حين تخلو جيوبه.
ملامحه الكوردية، وصوته المبحوح من كثرة النداء، يجعلان منه أيقونة حقيقية. بعض المارّة يتوقفون للحديث معه لا للشراء، بل ليستنشقوا قليلاً من عبق الأصالة المفقودة.
رجل... لكنه مدرسة حياة
كاكه حمه ليس مجرد بائع. بل هو مدرسة حقيقية في الصبر والعزّة. رجل علّمنا أن الكرامة لا تُشترى، وأن العمل الشريف هو أجمل ما يقدمه الأب لأبنائه.
إن قصته ليست حكاية فقير، بل قصة مقاوم... رجل انتصر على الحاجة بالإرادة، وعلى العوز بالشرف.
كاكه حمه هو "تمثال حي للكرامة"، في مدينة تُنجب رجالًا يشبهون الأرض: قاسية الظاهر، نقيّة الباطن.