.
بقلم: إيناس الوندي
في الثاني من أيار/مايو من كل عام، يحتفل العراق بـ"عيد التلفزيون العراقي"، ذلك الصندوق العجيب الذي شكّل منذ ولادته نافذة العراقيين الأولى إلى العالم، ومرآة تعكس تحولات المجتمع، وأداة ثقافية شكّلت الوعي الجمعي عبر العقود.
ميلاد شاشة صنعت الذاكرة
في عام 1956، كانت بغداد على موعد مع انطلاق أول بث تلفزيوني رسمي في العراق، ليكون العراق بذلك من أوائل الدول العربية التي دخلت عالم التلفزيون، حتى قبل دول كبرى في المنطقة. انطلقت الشرارة من بناية صغيرة في منطقة الصالحية، بشاشة بالأبيض والأسود، لكنها كانت تحمل أحلامًا ملونة وطموحات ثقافية ووطنية كبرى.
وتعود القصة إلى عام 1955، حين حضرت إحدى الشركات الألمانية للمشاركة في معرض تجاري للأجهزة الإلكترونية في بغداد، وقدّمت خلاله مرسلة للبث التلفزيوني بالأبيض والأسود مع استوديو صغير وأجهزة تلفاز "مراني" أبهرت الحضور، الذين لم يسبق لهم رؤية هذه التقنية. وبعد انتهاء المعرض، قررت الشركة إهداء تلك المعروضات إلى الحكومة الملكية العراقية.
وفي الثاني من أيار/مايو، تزيّنت سماء بغداد بسارية كهربائية جديدة بلغ ارتفاعها 140 قدمًا، حملت أول إشارة بث تلفزيوني عراقي، لتسجّل لحظة فارقة في تاريخ الإعلام الوطني، وترمز دومًا لتقدّم العراق وانفتاحه على العصر.
من الأبيض والأسود إلى فضاء الدراما والفكر
منذ ذلك اليوم، بدأ التلفزيون العراقي رحلته الطويلة، ليغدو الرفيق اليومي للعائلة العراقية. فبين نشرات الأخبار، والبرامج الثقافية، والمسلسلات الدرامية، كان "التلفزيون" صوت الدولة، ولسان حال الشعب، ووسيلة توثيق لتحولات العراق السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
عاش التلفزيون فترات مجد وتألق، ومرّ أيضًا بمراحل من الرقابة والتوجيه السياسي، لكنه ظلّ حيًا في وجدان العراقيين. من برنامج "العدسة" إلى "افتح يا سمسم"، ومن دراما الخمسينات والستينات إلى أعمال التسعينات التي شكلت ذروة الإنتاج الفني، حمل التلفزيون العراقي رسائل تربوية وثقافية وإنسانية لا تُنسى.
جيل كامل تربّى على هذه الشاشة
التلفزيون العراقي لم يكن مجرد وسيلة إعلام، بل كان جزءًا من نسيج البيت العراقي. من خلاله، تشكلت ذائقة فنية، وتكوّن وعي وطني. كانت الشاشة بيتًا ثانيًا، وأحيانًا معلمًا، وأحيانًا صديقًا يخفف عن الناس وحدة الحصار وظروف الحروب والمآسي.
وبرغم التحولات التكنولوجية التي شهدها العالم، وبروز الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، لا يزال للتلفزيون العراقي رمزيته ومكانته في القلوب، خاصة لدى الأجيال التي عايشت أيام الأبيض والأسود، وصوت المذيع الهادئ، والموسيقى التي تسبق نشرة الأخبار.
وللروّاد الأوائل وقفة وفاء
لم يكن التلفزيون العراقي ليُكتب له هذا المجد لولا نخبة من الرواد الذين حملوا الحلم وواجهوا التحديات بإمكانات متواضعة، لكن بإرادة لا تعرف المستحيل. من بينهم المخرجون الأوائل مثل طارق عبد الجليل وعلي الحيدر، والفنيون مثل فوزي عبد الأمير، والمذيعون الروّاد مثل عبد الجبار الفتلاوي، وموفق محمد، وناجية إبراهيم، الذين وقفوا خلف الكاميرا وأمامها ليزرعوا أولى البذور في تربة الإعلام العراقي، ويمهدوا الطريق للأجيال القادمة من الإعلاميين والفنانين.
احتفال بالتاريخ وتجديد للأمل
في عيده، لا نحتفل بجهاز إلكتروني، بل نحتفل بذاكرة وطن، وبمن صنعوا هذه الذاكرة من إعلاميين ومخرجين ومقدّمين، كثير منهم رحلوا، وبعضهم لا يزال يواصل العطاء رغم التحديات.
هي فرصة أيضًا لتقييم الواقع الإعلامي، وإعادة النظر في تطوير محتوى التلفزيون الوطني، ليبقى حاملًا لهوية العراق، بعيدًا عن التسييس والانقسام، قريبًا من الناس، معبّرًا عن آلامهم وآمالهم.
كل عام والتلفزيون العراقي بخير... وكل عام والإعلام الوطني الحرّ حيّ لا يموت.