×

أخر الأخبار

عدم دستورية الاتفاقية المتعلقة بتنظيم الملاحة بين العراق والكويت

  • 1-11-2023, 20:35
  • 92 مشاهدة
  • د. دريد محمود علي

أصدرت المحكمة الاتحادية العليا بتاريخ 4/9/2023 حكماً يقضي بعدم دستورية القانون رقم 42 لسنة 2013 المتعلق بتصديق الاتفاقية المبرمة بين العراق والكويت بشأن تنظيم الملاحة في خور عبدالله، وذلك في الدعوى المرقمة 194/اتحادية/2023. ويترتب على هذا الحكم عدم نفاذ الاتفاقية موضوع البحث، ذلك إن المعاهدة أو الاتفاقية الدولية لا تصبح نافذة إلا بعد التصديق عليها من قبل السلطة التشريعية. ولما كان هذا التصديق مشوباً بعيب اقتضى بطلانه فإن الأثر القانوني المترتب على ذلك هو عد نفاذ هذه الاتفاقية في مواجهة العراق. ويطرح هذا الأمر مسألة تعيين وترسيم الحدود بين العراق والكويت، لذلك فإننا نتولى توضيح فكرة تعيين الحدود وترسيمها، والكيفية التي تمت بها هذه العملية قدر تعلق الأمر بالحدود بين العراق والكويت. ثم ننتقل بعد ذلك إلى دراسة الآثار المترتبة على قرار المحكمة الاتحادية العليا.   

اولاً: تعيين الحدود وترسيمها: المفهوم واوجه الاختلاف

الأصل أن يتم تعيين الحدود السياسية بين الدول المتجاورة بمقتضى اتفاق يبرم بينها ضمن اطار المعاهدات الدولية. فاذا وقع الخلاف أو الاشكال بين هذه الدول يتم اللجوء إلى تسوية النزاع عن طريق التحكيم أو القضاء الدولي. على أن عملية تعيين الحدود الدولية تظل ذات طابع نظري ولا ترتب آثارها في الواقع العملي إلا إذا تم تطبيقها وتنفيذها من خلال ما يصطلح عليه (ترسيم الحدود).

يتضح مما تقدم إن هناك فارقاً جوهرياً بين عملية تعيين الحدود وعملية ترسيمها. فتحديد أو تعيين الحدود (Delimitation) هو عملية قانونية يتم بموجبها بيان الوصف الدقيق لخط الحدود في السند القانوني المنشئ له، وهذا السند قد يتخذ صيغة معاهدة دولية أو بروتوكول يعقد بين الدولتين المتجاورتين. وطالما إن عملية التحديد ذات طابع قانوني فانها تدخل في اختصاص خبراء القانون الدولي. 

اما ترسيم الحدود (Demarcation) فإنه عمل فني يتم بموجبه تنفيذ خط الحدود الذي تم وصفه في المعاهدة أو البروتوكول على الواقع العملي. بمعنى إن عملية ترسيم الحدود تتم بالضرورة بعد تعيين تلك الحدود، إذ يجري تطبيقها على سطح الأرض وفقاً للكيفية التي وردت في المعاهدة او البروتوكول. حيث يتم تثبيت الحدود من خلال وضع الأسلاك الشائكة أو الاعمدة الخراسانية أو غيرها من العلامات المادية الحدودية. وتضطلع بعملية ترسيم الحدود عموماً لجان فنية متخصصة تضم خبراء في الهندسة والجغرافيا والخرائط والشؤون العسكرية.

ثانياً: تعيين الحدود بين العراق والكويت:

من خلال تطبيق هذه المبادئ على قضية الحدود بين العراق والكويت يتضح ما يلي:

1.    يشير قرار مجلس الامن رقم 833 في 27/5/1993 إلى أن تعيين الحدود بين العراق والكويت قد تم بمقتضى المحضر المتفق عليه بين الدولتين بشأن إعادة علاقات الصداقة والاعتراف والمسائل ذات الصلة، الموقع عليه من قبل الطرفين في 4 تشرين الأول/أكتوبر 1963.

2.    بالرجوع إلى المحضر المشار إليه اعلآه يلاحظ أنه قد تضمن في الفقرة الأولى منه ما يلي: (تعترف جمهورية العراق باستقلال دولة الكويت وسيادتها التامة بحدودها المبينة في كتاب رئيس وزراء العراق بتاريخ 21/7/1932 والذي وافق عليه حاكم الكويت بكتابه المؤرخ في 10/8/1932. 

3.    لدى تدقيق كتاب رئيس وزراء العراق المؤرخ في 21/7/1932 يتضح أنه يشتمل على الوصف التالي للحدود بين البلدين (من تقاطع وادي العوجة مع الباطن، ومنها في اتجاه الشمال على امتداد الباطن إلى نقطة تقع مباشرة جنوب خط عرض صفوان، ومنها شرقاً مارة بجنوب آبار صفوان، جبل سنام، وأم قصر مجتازاً إلى العراق، وهكذا إلى التقاء خور الزبير بخور عبد الله). بمعنى إن رسالة رئيس الوزراء العراقي الأسبق (نوري السعيد) التي أرسلها الى المندوب السامي البريطاني في العراق بتاريخ 21/7/1932 تعد هي السند القانوني المنشئ للحدود بين العراق والكويت. وقد تكرس هذا السند بمقتضى المحضر المتعلق بعلاقات الصداقة والاعتراف بين العراق والكويت، الذي تم توقيعه في الرابع من تشرين الأول 1963.

ونود أن نبين في هذا الصدد ما يلي:

1.   إن رسالة السيد نوري السعيد قد أرسلت خلال فترة خضوع العراق للانتداب البريطاني. ويعد هذا الأمر سبباً في عدم ترتب الآثار القانونية على هذه الرسالة. إذ يفترض أن تصدر عن دولة مستقلة ذات سيادة كي تنتج آثارها القانونية. ولم يكن العراق في ذلك الوقت متمتعاً بالاستقلال الكامل وانما كان خاضعاً للانتداب البريطاني. حيث اصبح العراق دولة مستقلة في الثالث من تشرين الأول/ أكتوبر 1932 بعد انضمامه إلى عصبة الأمم، ليكون تسلسله 57 بين دول العالم في عصبة الأمم.

2.   إن محضر الاتفاق الموقع بين العراق والكويت بتاريخ 4/10/1963 لا يندرج في اطار المعاهدات والاتفاقيات الدولية، إذ لم يستكمل الشكلية القانونية المطلوبة المتمثلة في المصادقة عليه من قبل السلطة التشريعية أو رئيس الجمهورية. كما إن توقيعه قد تم خلال فترة من عدم الاستقرار السياسي والأمني التي سادت العراق.

3.   كما أن هذا المحضر قد استند إلى رسالة السيد نوري السعيد، ولما كانت تلك الرسالة تفتقر إلى قيمة قانونية حقيقية فان ذلك يستتبع بالضرورة غياب القيمة القانونية للمحضر اعلآه.

 

ثالثاً: ترسيم الحدود بين العراق والكويت:

تمت عملية ترسيم الحدود بين العراق والكويت بواسطة لجنة فنية، انشأها الأمين العام للأمم المتحدة بموجب تقريره الصادر بتاريخ 2/5/1991. وقد استند في تشكيلها إلى أحكام الفقرة 3 من قرار مجلس الأمن رقم 687 لسنة 1991. حيث تنص هذه الفقرة على أنه "يطلب إلى الأمين العام أن يساعد في اتخاذ الترتيبات اللازمة مع العراق والكويت لتخطيط الحدود بين العراق والكويت، مستعيناً بالمواد المناسبة، بما فيها الخرائط المرفقة بالرسالة المؤرخة 28 آذار/ مارس 1991 الموجهة إليه من الممثل الدائم للمملكة المتحدة لبريطانيا وايرلندا الشمالية لدى الأمم المتحدة وأن يقدم تقريراً عن ذلك في غضون شهر واحد". واستناداً إلى هذا النص فقد وضع الأمين العام جملة من القواعد والأسس لتنظيم عمل اللجنة. ولعل أهم هذه الأسس ما يلي:

1.    تتكون اللجنة من خمسة أعضاء هم ممثل عن العراق وممثل عن الكويت وثلاثة خبراء مستقلين يتم اختيارهم من قبل الأمين العام، وتناط باحدهم رئاسة اللجنة.

2.    يشترط لصحة اجتماع اللجنة حضور ثلاثة على الأقل من أعضائها بمن فيهم الرئيس، وواحد على الأقل من ممثلي الدولتين. 

3.    تتخذ اللجنة قراراتها بالأغلبية وتكون قراراتها بشأن تخطيط الحدود نهائية. 

4.    تكون جميع اجتماعات اللجنة مغلقة، ويتولى رئيس اللجنة افتتاح واختتام اجتماعاتها، ويدير مناقشاتها ويمنح الحق في الكلام ويطرح الموضوعات للتصويت ويعلن القرارات وقواعد نقاط النظام.

ويلاحظ على هذه الأسس ما يلي:

1.   انها تفتقر إلى الجانب الموضوعي، كما إنها لا تنسجم مع مبادئ العدالة. فاللجنة تضم خمسة أعضاء، ثلاثة يختارهم الأمين العام دون التشاور مع الدولتين صاحبتا العلاقة. كما إن رئاسة اللجنة تناط بأحد أولئك الثلاثة الذين رشحهم الأمين العام. بمعنى إن الأمين العام هو المهيمن على تشكيل اللجنة.

2.   من جانب آخر فإن نصاب الاجتماع يتعارض هو الآخر مع المنطق والقانون. إذ يكون الاجتماع صحيحاً عند حضور ثلاثة من الأعضاء بمن فيهم الرئيس واحد ممثلي الدولتين. ومعنى ذلك إن غياب ممثل العراق لن يؤثر في صحة انعقاد جلسات اللجنة. فالاجتماع صحيح طالما حضره ممثل الكويت واثنين آخرين من الأعضاء. ولما كان ترسيم الحدود مسألة خلافية بين الدولتين، وقد كانت سبباً جوهرياً في اندلاع النزاع بينهما، فإن النصاب المشار إليه اعلآه لا يحقق مقتضيات العدالة، ويجعل قرارات اللجنة مشوبة بالاجحاف والانحياز.

3.   يضاف إلى ما تقدم فإن آلية اتخاذ القرارات داخل اللجنة لا تتصف هي الأخرى بالانصاف والعدالة. إذ تتخذ اللجنة قرارتها بالأغلبية، بمعنى إن اعتراض ممثل العراق لوحده لن يؤثر في قرارات اللجنة. كذلك الحال بالنسبة لممثل الكويت، فاعتراضه لوحده غير ذي تأثير في قرارات اللجنة. وتعد هذه المسألة غاية في الخطورة، إذ إنها تخول اللجنة التي شكلها الأمين العام سلطة تدخل في جوهر الأعمال السيادية التي تتمتع بها الدولة، وهي مسألة تخطيط وترسيم الحدود. وهي سابقة خطيرة في عمل المنظمة الدولية. ذلك إن ترسيم الحدود، كما بينا آنفاً، يتم من حيث الأصل بموجب اتفاق بين الدول. فاذا نشب النزاع بين الدول المتجاورة يتم اللجوء إلى التحكيم أو إلى لجنة فنية يتم تشكيلها لهذا الغرض، على أن يكون لكلتا الدولتين رأي واضح ومؤثر في تشكيل اللجنة وقراراتها. اما هذه اللجنة فليس للعراق دور في تشكيلها، وليس لصوته تأثير في قرارتها، وليس لغيابه أثر في صحة جلساتها. فاذا اضفنا إلى ذلك إن (قرارات اللجنة تكون نهائية)، بمعنى إنها غير قابلة للطعن أو الاعتراض، تكتمل أسس الاجحاف في أعمال اللجنة وقرارتها.

وقد أكملت اللجنة اعمالها على الرغم من أن ممثل العراق لم يحضر غالبية اجتماعاتها. كما أن رئيس اللجنة (وزير خارجية اندونيسيا السابق/ مختار كوسوما اثماوجا) لم يوافق على الاستمرار بعمله واستقال من رئاسة اللجنة في 20/ تشرين الثاني نوفمبر/ 1992. حيث قام الأمين العام بتعيين (نيكولاس فلتيكوس/ المدير العام السابق لمكتب العمل الدولي) رئيسا للجنة.

وعلى الرغم من جميع هذه العيوب الشكلية والموضوعية التي تشوب عمل اللجنة وقراراتها، فقد اصدر مجلس الأمن قرارين أثنين لتأييد وتأكيد عمل اللجنة الفنية اعلآه، هما القرار 773 في 26/آب أغسطس/ 1992، والقرار 833 في 27/آيار مايو/1992. وكأن مجلس الأمن يريد إضفاء المشروعية على لجنة لم يتصف عملها وقراراتها بالمشروعية. حيث جاء في بداية هذين القرارين ما يلي: "وإذ يشير المجلس في هذا الصدد إلى أن اللجنة من خلال عملية تخطيط الحدود لم تقم بإعادة توزيع الأراضي بين الكويت والعراق، بل بمجرد انجاز المهمة التقنية الضرورية، للقيام لأول مرة بوضع تحديد دقيق لاحداثيات الحدود الواردة في المحضر المتفق عليه بين دولة الكويت وجمهورية العراق بشأن إعادة علاقات الصداقة والاعتراف والمسائل ذات الصلة الموقع عليه من الطرفين في 4/ تشرين الأول أكتوبر/1963". كما جاء في الفقرة 2 من القرار 773  ما يلي: "يعرب المجلس عن تقديره لعمل اللجنة بشأن تخطيط الحدود على الأرض ويرحب بقراراتها في هذا الصدد". اما القرار 833 فقد تضمن ما يلي: "3. يعرب المجلس عن تقديره للجنة لما قامت به من عمل على الجزء البري من الحدود وكذلك في خور عبد الله أو القطاع البحري من الحدود ويرحب بقراراتها المتعلقة بتخطيط الحدود. 4. يؤكد من جديد إن قرارات اللجنة فيما يتعلق بتخطيط الحدود  قرارات نهائية".

رابعاً: موافقة العراق وقبوله قرارات مجلس الأمن

إن النظام السياسي الذي كان يحكم العراق لا يتمتع بالشرعية القانونية والسياسية. فقد قام بقمع وترهيب المجتمع العراقي، ثم انتقلت جرائمه بعد ذلك لتتخذ طابعاً دولياً واقليمياً، تمثل في احتلال دولة عربية وإسلامية شقيقة هي الكويت. وقد اقتضى ذلك تشكيل تحالف دولي لتحرير الكويت وإخراج القوات العسكرية منها. ويعد هذا الأمر وما تبعه من فرض الحصار الاقتصادي على العراق دليلاً واضحاً على فقدان النظام السياسي شرعيته على المستوى الدولي. لذا فإن قبول الحكومة العراقية بقرارات مجلس الأمن لا يرتب أي أثر قانوني ولا يعتبر قبولاً بالمعنى القانوني السليم الذي يجعل تلك القرارات مكتسبة للشرعية والمشروعية للأسباب التالية:

1.   فقدان النظام السياسي آنذاك شرعيته على المستوى الداخلي والدولي. فلو كان النظام يستمد شرعيته من المجتمع بشكل حقيقي فإنه ما كان ليقدم على هذه الخروقات والأفعال دون الاستعانة برأي المجتمع للوقوف على قراره. ولو لم يكن ذلك النظام الاجرامي يعتمد الترهيب والقتل والاعتقال منهجاً في معاملة المجتمع العراقي لأقدم الناس على ازاحته بالقوة. لكن بقائه واستمراره متسلطاً على حياة الناس رغم الهزيمة والجوع والحرمان إنما يدلل بشكل قاطع على فقدان مشروعيته على المستويين الداخلي والدولي.

2.   إن موافقة النظام البائد وقبوله قرارات مجلس الأمن، إنما تمت بعد هزيمته وطرده من الكويت أثر حربه مع التحالف الدولي عام 1991. وقد حاول ذلك النظام المحافظة على وجوده والتخلص من العزلة الدولية من خلال موافقته على تلك القرارات لاحقاً. كما أن قبول قرار مجلس الأمن 833 لسنة 1993 قد تم عام 1998 بعد الضربات الجوية والصاروخية التي وجهت إلى مؤسسات حيوية مهمة للنظام البائد في اطار ما سمي (عملية ثعلب الصحراء). حيث تعد هذه الضربات الجوية وسيلة من وسائل الاكراه التي مارستها قوات التحالف والمنظمة الدولية لإجبار نظام غير شرعي على قبول قرارات مجلس الأمن.

3.   من المعروف قانوناً أن الاكراه يفسد الإرادة ويجعلها تسير على غير رضاها، وهو عيب من عيوب الإرادة على مستوى القانون الداخلي أو القانون الدولي. فالإكراه قانوناً هو اجبار الشخص على القيام بعمل ما دون رضاه. وقد تعرض النظام البائد للإكراه بهدف حمله على قبول قرار مجلس الأمن المتعلق بترسيم الحدود. بمعنى إن الموافقة على قرار مجلس الأمن 833 تمت من قبل نظام غير شرعي نتيجة اكراه دولي تعرض له. فتكون هذه الموافقة مشوبة بعيبين أثنين جوهريين: اولهما: صدورها ممن لا يملك الحق في إصدارها (وهو النظام السياسي غير الشرعي). فصاحب الحق في القبول بالمسائل الجوهرية كقضية الحدود، هو الشعب العراقي الذي يعيش على هذه الأرض ويتخذ منها اقليماً ومسكناً منذ آلاف السنين. ثانيهما: إن الموافقة على قرار مجلس الأمن قد تمت بموجب الاكراه والاجبار المتمثل في نيران الطائرات الامريكية والصواريخ التي أحدثت أثراً مادياً ومعنوياً في الوقت ذاته. وقد تجسد الأثر المادي فيما الحقته من دمار بمؤسسات مهمة تعد دعامة من دعامات ذلك النظام القمعي (مبنى المخابرات). اما الأثر المعنوي وهو الأبرز فإنه يتمثل فيما أحدثته تلك الصواريخ من خوف وخشية لدى الدكتاتور من انهيار نظامه القمعي وزوال سلطانه.

4.   طالما أن الأمر كذلك فإن العراق يستطيع طلب إعادة النظر في قرار مجلس الأمن 833 لسنة 1993 لأنه قد انطوى على كثير من الاجحاف بحقوق العراق السيادية. إذ يمكن المطالبة بتشكيل لجنة فنية تقوم بترسيم الحدود بين العراق والكويت على وفق قواعد من الانصاف والعدالة.

 
الدكتور دريد محمود علي
دكتوراه في القانون / باحث في الشأن السياسي