تعيش الأمة الإسلامية، بكل مكوناتها، أحداثاً عاصفة على كل المستويات، تستهدف عقيدتها و وجوداتها الإجتماعية والسياسية وثرواتها، من أجل استلابها روحياً وإيمانياً وثقافياً، وسحق عناصر قوتها البشرية والمادية، والقضاء على مفاصل المناعة والردع فيها. وهو ما تهدف اليه قوى الإستكبار العالمي؛ لتجعل كيان المسلمين جسداً خائراً ضعيفاً منهكاً، لايقوى على المواجهة والتصدي والدفاع عن نفسه وعرضه وعقيدته وأرضه ومقدراته، و يمكن السيطرة عليه والتحكم فيه بسهولة.
ولم تكن أمة الإيمان يوماً بمعزل عن هذا الإستهداف الإستكباري؛ بل أن ما نمر به اليوم هو حلقة من سلسلة الكيد المتواصل منذ بدإ الخليقة. ففي كل زمان ومكان كان المستكبرون يضعون أمة الإيمان في مركز أهدافهم التآمرية، من أجل استضعافها وشل قدرتها على المواجهة، للحفاظ على هيمنتهم على السلطة والثروة، وتكريس حالة استعباد الناس .
ويعطي المستكبرون والطغاة الحق لأنفسهم في استخدام جميع الأساليب والوسائل من أجل الوصول الى أهدافهم السلطوية، بدءاً بقمع الحريات وتكميم الأفواه وتزييف الحقائق والكذب والافتراء والخداع، وانتهاء بالملاحقات والتهجير القسري والاعتقال والتعذيب والقتل والمقابر الجماعية والاعتداء على الأعراض ومصادرة الأراضي والثروات، دون أدنى رادع من ضمير أو وازع من حس إنساني أو كابح أخلاقي (( فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)).
و كانت مسيرة الرسل والأنبياء والأئمة والأولياء والصالحين والدعاة، ولا تزال، مسيرةَ صراعٍ ومواجهةٍ مستمرةٍ مع قوى الإستكبار والطغيان. و إذ تحمل جبهة الإيمان في ساحة الصراع أهداف التوحيد والحق والخير والإصلاح والحرية، فإنّ جبهة الإستكبار تحمل في المقابل أهداف الشرك والباطل والشر والفساد والإستعباد. ولايزال أبناء الأمة المرابطون في مسيرة الصراع مع الإستكبار، يضحون بكل غالٍ ونفيس، وفي مقدمتها الأنفس، من أجل إدامة قوة المواجهة، والحؤول دون تمكن المستكبرين والطغاة من تحقيق أهدافهم. فظلت دماء الشهداء تشحن همم المؤمنين بطاقة المواصلة في طريق ذات الشوكة.
و ظلت جبهة الاستكبار والطغيان تتوارث الأهداف والمناهج والأساليب، كما لا تزال جبهة الإيمان تتوارث الغايات والمعتقدات والسلوكيات. و ما تقوم به أمة الإستكبار اليوم هو ترجمة لما ظلّ يمارسه المستكبرون طوال التاريخ. وهو ما نشاهده بوضوح في أكثر من بلد، وفي مقدمتها العراق وفلسطين.
وتمثل الجرائم الأخيرة التي راح ضحيتها اثنان من خيرة مجاهدي الأمة وقادتها الميدانيين: الشهيد أبو مهدي المهندس والشهيد قاسم سليماني، ومجوعة من مجاهدي الحشد الشعبي في مدينة القائم وغيرها؛ نموذجاً صارخاً للسلوك الإستكباري الطاغوتي الممتد عبر الزمان. وهذه الممارسات التراكمية الخطيرة لحكومة الولايات المتحدة الأمريكية ضد العراق وشعبه وقواه السياسية ومقاومته وضيوفه؛ تنسف مرة أخرى ادعاءاتها بالتبشير بالديمقراطية والحرية واحترام حقوق الإنسان و إرادة الشعوب؛ لأنها بممارساتها هذه انتهكت أبسط مبادئ القانون الدولي.
لقد حذرنا مراراً من خطورة الأوضاع في العراق والمنطقة؛ بسبب ما تمارسه قوى الهيمنة من انتهاكات وعبث بأمن العراق والمنطقة، والتي أدت الى ما يشاهده العالم من فوضى وفشل واحتراب داخلي وشلل في كثير من مفاصل الدولة. وهدفهم هو العودة الى مشروع الإحتلال الذي أفشلناه كقوى وطنية إسلامية، عبر المقاومة السياسية المركّزة، طيلة ستة عشر عاماً من عمر التواجد العسكري الأجنبي على أرض العراق. وسنبقى نقف بالمرصاد لكل من يحاول العبث بهوية العراق واستقلاله وسيادته ومقدراته (( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)).
إن مواجهة التحديات التي تتسبب فيها الهجمة الإستكبارية الشاملة، لا يقتصر على جانب دون آخر، و وسيلة دون أخرى. وأرى أن من بين الجوانب الأساسية التي لا تحظى بالاهتمام اللازم من غالبية نخب الأمة، هو الجانب الفكري والثقافي، و الذي تركز عليه قوى الإستكبار في المقابل، بهدف تفريغ واقع الأمة من محتواه الفكري الثقافي، وسلب عقيدة المجتمع المسلم، وتهديم تحصيناته الثقافية؛ لخلق القابلية لدى الأمة على الصمت ـ حداً أدنى ـ حيال كل أشكال الغزو الأخرى: السياسي والعسكري والإقتصادي. ومن هنا؛ ينبغي العمل بكثافة وتركيز على تأصيل البعد الفكري والثقافي الإسلامي في حياة الأمة، وتقويته؛ بهدف خلق حالة الممانعة والمقاومة الثقافية الذاتية، وهو أحد أهم سبل المواجهة.
و لاشك أن هذه المهمة هي مهمة تضامنية، تشترك فيها المؤسسات والشخصيات الدينية والثقافية الرسمية وغير الرسمية، وكذا التنظيمات السياسية الإسلامية، إلّا أن المسؤولية الأكبر تقع على عاتق نخب الأمة العلمية والفكرية والثقافية الإسلامية، لتتضافر جهودها من أجل تقوية البناء الفكري والثقافي الإسلامي الممانع، وتأصيل الواقع العقدي للأمة.
ولا نشك مطلقاً في وعي أمتنا بما يدور حولها وفي ساحتها من تآمر استكباري لا أخلاقي ولا إنساني، وهو وعي متصاعد وملموس بإذن الله (تعالى) ومدده، و في قدرتها على تجاوز الأزمات والمحن. فكلما ازدادت نسب الإنحطاط الأخلاقي في مؤامرات قوى الإستكبار ضد أمتنا، إزداد وعي الأمة، وتفجرت قدراتها على النهوض و المقاومة وإعادة البناء الذاتي. ولذلك، نستشرف مستقبل الأمة مشرقاً بالنصر والنجاح والصعود المعنوي والمادي، ومستقبل قوى الإستكبار نحو التراجع والإنحدار (( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)).