بدعوة من "المؤتمر الوطني العام للكرد الفيليين"، ألقى المفكر الإسلامي العراقي الدكتور علي المؤمن يوم الثلاثاء الماضي، محاضرة انثروبولوجية حول المكون الفيلي العراقي، وأصوله ومناطق تواجده الجغرافي، وتاريخه وحاضره ومستقبله، وهويته الإنسانية والثقافية والمذهبية في المركز الثقافي الفيلي .
واستهل الدكتور المؤمن حديثه بالقول بأن بحثه هذا هو جزء من بحوثه الحفرية التي يعكف عليها منذ عشرين عاماً حول ((الأمة العراقية وإعادة تشكيلها، من أجل بناء الحاضر وضمان المستقبل))، مستخدماً عدداً من المداخل العلمية، كالآثار والانثروبوجيا والسيسيولوجيا والجينالوجيا، وبالاستعانة بأكثر من (200) مصدر بمختلف اللغات، وقد بلغ المدوّن من هذه البحوث ما يقرب من (700) صفحة، والتي يفترض أنها ستغير كثيراً من الأفهام الدوغمائية الموروثة حول الأمة العراقية وتاريخها ومكوناتها وتشكيلها وحاضرها، وخاصة الأفهام العنصرية الطائفية التي نشأت بعد تشكيل الدولة العراقية في العام 1921، ثم تبلورت بصورةٍ فاقعةِ التحريف والتزييف بعد تأسيس الدولة البعثية في العام 1968.
وأكد الدكتور علي المؤمن بأن وجود المكون الفيلي في العراق يعود الى أكثر من خمسة آلاف سنة، وخاصة في منطقة شرق دجلة، التي تشمل محافظات ميسان وواسط وديالى الحالية، حيث الأكثرية اللرية العيلامية والكاسية والآرية قبل الفتح الإسلامي، إضافة الى وجودهم الكثيف في الضفة المقابلة، وخاصة في محافظات خوزستان ولرستان وفارس وايلام وكرمنشاه الإيرانية. وعرض الدكتور المؤمن أدلة العلمية التي تثبت أن الفيليين مكون مؤسس للعراق التاريخي والحديث، كما هم مكون مؤسس لإيران التاريخية والحديثة، لأنهم ينتمون الى قومية كبيرة عابرة للحدود الوطنية الحالية، شأنهم شأن العرب والكرد والتركمان.
وحين لم يكن هناك وجود للحدود الحالية كما قال؛ فإن حدود انتشار القومية اللرية العيلامية التي ينتمي اليها الفيليون، كانت تشمل أغلب محافظات شرق العراق وأغلب محافظات غرب إيران، كما أشرنا، أي أنهم ليسوا مهاجرين من إيران الى العراق أو من العراق الى ايران، بل هم أصحاب الأرض منذ آلاف السنين، إذ أن العرقية العيلامية التي ينتمي اليها الفيليون ظهرت في ما يعرف حالياً "خوزستان" منذ حوالي عشرة آلاف سنة، وتحولت الى مدنية ودولة وحضارة قبل سبعة آلاف سنة، وكانت عاصمتها شوش (سوس) إحدى الحواضر المتفردة، شأنها شان حضارة وادي الرافدين، وذلك قبل الهجرات الآرية من آسيا الوسطى الى ما يعرف اليوم "ايران" بأكثر من ثلاثة آلاف سنة، أي أن وجود العيلاميين في خوزستان وشرق دجلة يسبق وجود الفرس والعرب بآلاف السنين.
وتحدث الدكتور المؤمن عن إشكاليات علاقة القومية اللرية ومكوناتها الفيلية والبختيارية والكلهورية والبويرية واللكية، بالعرقية العيلامية والقومية الكاسية والقومية الكردية الميدية والقومية العربية السامية والقومية الفارسية الآرية، والاستحالات الثقافية واللغوية التي تعرضوا لها على مدى آلاف السنين، بسبب التجاور والتصاهر والاحتكاكات والاحتلالات، وما جرى على الفيليين من مآسي وظلم منذ مئات السنين بسبب محاولات الاستحالة القسرية، وخاصة في عهد الدولة البعثية الطائفية العنصرية، بذريعة أصولهم الإيرانية، حيث اضطر مئات آلاف الفيليين الى الانتساب الى القبائل العربية والكردية، للتخلص من القمع والتسفير، وهو ما سبق أن فعله أجدادهم الذين استعربوا أو تكردوا أو تفرسوا، وخاصة في القرون التي أعقبت الفتح الإسلامي لبلاد ما بين النهرين وبلاد فارس، في حين أن استقرار الوجود الفيلي اللري العيلامي في العراق (شرق دجلة تحديداً) هو أقدم تاريخاً من وجود الصابئة والنبط الآراميين والعرب الساميين والكرد الميديين والكاسيين، ويُزامن وجود السومريين والبابليين والآشوريين، ولعل أهم سبب لهذا القمع المركب (القومي/ الطائفي) من الدولة البعثية هو انتمائهم المذهبي الشيعي، وتمسكهم بهذا الانتماء.
وذكر أن المكون الفيلي وغيره من مكونات القومية اللرية، تتوزع بين إيران والعراق الحاليين، حالهم حال كل القوميات العابرة للحدود الوطنية الجديدة، وأن المكونات اللرية الأخرى في العراق ليست كلها فيلية أو قبائل تابعة للمكون الفيلي، لكنهم أصبحوا منضوين تحت تسمية الفيليين مجازاً، وإلّا فهناك أعداد كبيرة جداً من البختيارية واللك والكلهور موجودون في العراق، وهم ليسوا فيليين، بل أشقاء الفيليين وأبناء عمومتهم، وتجمعهم القومية اللرية. ويرى الدكتور المؤمن بأن النسبة المتداولة للمنتسبين للمكون الفيلي لاتتجاوز 2% من عدد سكان العراق، وهي أقل بكثير من نسبتهم الحقيقية الكامنة، والتي لاتقل عن 7%، ما يعني أن عدد الفيليين في العراق لايقل عن ثلاثة ملايين نسمة.
ودعا الدكتور علي المؤمن الى أن يأخذ الفيليون زمام المبادرة في موضوع حصولهم على استحقاقاتهم الوطنية والقومية، وفق القانون والمتابعة السياسية والجهد الثقافي الحثيث، وعدم طلبها من الآخرين، لأن الحقوق تؤخذ ولاتطلب، ومنها استعادة هويتهم القومية المستقلة، ولغتهم وعاداتهم وتقاليدهم، أسوة بالمكونات الدينية والمذهبية والقومية العراقية الأصيلة الضاربة بجذورها في أرض العراق، كالسومريين والبابليين والنبط والآشوريين والكلدان والعرب والكرد والتركمان والصابئة والايزديين، لأن ما يدعو الى مزيد الاستغراب ــ كما قال ـــ أن يكون المكون الفيلي هو الاستثناء الوحيد عند الحديث عن الاستحقاقات القومية.
وقد حضر المحاضرة جمع غفير من النخب العراقية، من العرب والكرد والفيليين، وجرى في ختامها حوار مع المحاضر حول الموضوع، وكان هناك مداخلون لايتفقون مع النتائج البحثية التي توصل اليها الدكتور المؤمن، الأمر الذي جعله يكرر المقولة التي بدأ بها محاضرته بأن الدراسات التاريخية الإنسانية والانثروبولجية لايمكن أن تكون نتائجها قطعية ومتطابقة دائماً مع الحقائق، وهي تابعة لمستوى حيادية الباحث وموضوعيته وعمقه، وشمولية نظرته وانفتاحه على الآراء، وقدرته على الاستنتاج، والمصادر التي يعتمدها في بحثه.![]()
![]()
![]()
![]()